مشنقة النور/ زينب جادر المياحي

مشنقة النور/ زينب جادر المياحي

مشنقة النور …

كل يوم عندما تتأخر أمنياته يرجع إلى البيت ويسقي خشبة المشنقة بدموعه، لكن صوتاً مرتجفاً من وراء الظلام يعطيه الأمل لكي يتراجع عما یعتمل بداخله …

تأتي الأيام واحدة تلو الأخرى؛ ففي ذلك اليوم من أيام الصيف الساخنة رجع فارغ اليدين إلى البيت؛ فجلس مثل المرات السابقة ليسقي الخشبة بدموعه، لكن لم يسمع الصوت من وراء غرفة الظلام.. حاول أن يرفع صوته وعندما ركض نحو الظلام ترقرقت الدموع بعينيه ورأى منادي الأمل مات من كثر ألم الجوع والعطش لتشجيع ولده فعلم عندما مات أبوه وحان الوقت لاستخدام المشنقة للانتحار.

دبّ الصمت المُخنق في الغرفة فنظر إلى المشنقة والدمع يسيل من مدمعيه. عاد إلى الغرفة مرة أخرى وهو كالحمامة مقطوعة رأس يتعثر بين الغرف ثم راح نحو الخشبة ويناديها بغضب وكلام متمتم: سُرقت ثقتي وسُرقت كل ما بداخلي. بنيت قصر أحلامي بحضور والدي فحاليا أنا بوحدتي ووحشتي فلم يبقَ لي سوى احتضانك وتقبيلك لكي تلحقني بأبي وبأمنياتي. لكي أرى إخوتي وأقول لهما الحزن يطويني والفراق يؤلمني وليس لي مفر من الموت.

فيا حبل المشنقة قبّل عنقي كما قبّلت الأحرار من قبلي والمجرمين. سأسلم نفسي للموت ولن أستطع أن تطرق أقدامي هذه الأرض النبيلة التي ليس لي منها إلا حفنة تراب باسمي فقط ويا سماء الحياة افتحي ذراعيك وأحضنيني كما حضنت والدتي التي كانت في صميم متاعبنا دائماً ولكن سرعان ما التعب سرقها من بين اليدين.

دفنت أحزاني في داخلي وناضلت الحياة لأجلي ولأجل أسرتي. فحاولت أن تخضعا لي السماء والأرض ولكن سُرقت وسُلبت مني الأرض والسماء والماء والتراب.
سُرق مني الأمل. فحالياً عرفت العالم لا يساوي شيئاً مادام لم يبقوا معي. وبعد رحيل أبي لا قيمة للحياة. لا قيمة للأمل عندما رحل منادي الأمل. كان أبي في غاية العزّة والشجاعة ويعمل ويسقينا بعرق تعبه ولم نشعر بما كان يؤلمه لكي يهيئ لنا راحة البال.

ولكن في يوم ما؛ تجمّدت أحلامنا مثل الحجر بعدما اصطدمت سيارة أبي في طريق بلا أضواء. في تلك الحادثة فقدت إخوتي وأمي وأصاب أبي بشلل. بقيت أنا ووالدي المشلول ولكن هو في قمة الأمل.

عانيت معاناة كثيرة بسبب وحدتي ولكن استقمت لأجل أبي الذي كان منارة حياتي. أنهيت دراستي وصممت أن أكسر أبواب سجن المعاناة وأبحث عن عمل لكي أسعد أبي ليستنشق رائحة الصحة من جديد.

أصبحت كل يوم أكثر ارهاقا من القبل في البحث عن العمل. وعند رجوعي إلى البيت أشعر أصواتهم تمزق ستار سمعي: لا يمكن التوظيف. أخرج من هنا! قف عند الباب! لا يمكن توظيفك بشأن أبيك فهو اشتكى ضد قانون الضوء عندما اصطدمت سيارته في ليلة الحادث.
فيا ترى هل هو المذنب أم قانون الضوء؟ لا شأن لنا نحن لسنا بحاجة لتوظيف من يخرق القانون.

يجتاح الكلام في خلايا وجودي ويجرّني التعب من السماع والمشاهدة إلى أحضان البيت. القانون وما القانون وما أدراك القانون؟ القانون حسب اعتقادهم أم حسب اعتقادنا وهل يوجد قانوناً لوضع القانون.

أما أنا كلّ يوم قبل أن تشرق الشمس أخرج إلى شارع الأحلام لكي أصيد طير السعادة ولكن لم أجد طيراً للاصطياد ولا شارع ليلبّي سعادتي. فاكتشفت أن القانون يعاقب البسطاء ولا يهتم بهم وبرغباتهم. القانون يصر استعباد البسطاء لأجل نفسه.

الكلمات من شدة الحزن تتشابك بحلقه وصوت رهيق بكاءه يعلو إلى السماء. عزم نحو حبل المشنقه تذكر أيام السعيدة التي عاشها مع أهله ولكن سماء المصير أمطرت عليه وابل من الظلام. تقدّم نحو خشبة المشنقه وضع الكرسي الخشبي تحت حبل المشنقه ففي تلك اللحظة همس صوت أبيه عندما كان يقول له: لا تشعل نيران الغضب في فؤادك وتخضع للغضب يوما ما، كن رجلاً قوياً أمام أي أحد أن يثير غضبك ويسرق منك قوتك. يا بنيّ عندما تفقد قدرتك على مقاومة الزمن فذلك اليوم يصبح يوم رحيلك. فلا تستلسم. حرقت دموع الغضب مقلتيه والحزن أشد حرارة من دموع الغضب على وجنتيه.

تمطر الجفون وهو يهمس ما بقلبه يا أبي: وقفوا أهل الارض أمامي ليسرقوا مني ضوء طريقي اتهموك بخرق القانون. يا أبي العالم سرقك مني فمالي مجالٌ لأسير هذا الطريق المظلم دونك.

متفطرالفؤاد بقدميه المرتجفتين توطأ الكرسي الخشبي وصوت صريره يدخل في أعماق قلبه المنكسر فأخذ الحبل وأدخل عنقه النحيف فحاول أن يرمي الكرسي برجليه ولكن سرعان ما تمزق الحبل وثم سقط على الأرض.

في ضوء المصباح الضعيف الذي يعمّ الغرفة سقط على المنصة. سقط دون أن يعلم السبب فتراءت له صورة والده عندما يرجع إلى البيت ويسأل والده كيف حالك يا أبي وكيف كان يومك؟ وهو يرد إليه ببسمة مليحة أنا والحبل بخير يا ولدي قضينا وقتاً طويلاً معاً فأصبحنا رفيقين حميمين.

لم يفهم من كلام أبيه شيئاً إلا اليوم؛ عندما سقط على الارض والحبل ممزق حول عنقه.

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات