لا نخلة في أرض النخيل
قصة قصيرة
سماهر أسد/مارس ٢٠٢١
کان الشيء الوحيد الذي يُرى هو امتداد اللون الأخضر من شرق الجبال إلى غربها، وقفَتْ على صخرة عالية على جبل رفيع، فبدأتْ تتأمل ذلك الجمال الملهم الهادئ الذي يغشاك حينما تنظر إلى الطبيعة الخلابة المغطاة باللونين الأخضر والأزرق السماوي.
وقفَتْ صامتة مبهورة بعظمة غابات النخيل تلك التي يتمايل سعفها مع نسمات الريح وكأنه يرقص على موسيقى الرياح رقصا ساحرا متناغما مع الإيقاع، يمينا مرة ويسارا مرة أخرى بتنسيق بديع. سحرتها تلك الغابات الدائمة الخضرة التي يفوح منها شذى اللقاح الزكي الذي يشبه رائحة الحياة ذاتها، كانت واقفة لساعات دون تعب، مذهولة بجمال تلك الغابات الآخاذة. وجدَتْ نفسها في تلك الساعات تستنشق السعادة في كل لحظة وحين. يوم مهيب، هدوء من حولها وغابات النخيل على امتداد البصر والسماء من فوقها. جلسَت على الصخرة ثم وضعَتْ يديها حول فمها وخاطبَتْ النخيل المرتفع الباسق بصوت عال، فدوى صوتها في الجبال:
_أيّها النخیل، نخیل نخیل، إني إني إني، على على على، عهدي عهدي عهدي معك، معك…لم أفارقكَ…أفارقكَ… كَ…كَ…
مزق صوتها صمت الطبيعة وتردد في الجبال فوصل إلى مسمع النخيل ورجع ليعانقها مرة أخرى.
***
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تخاطب النخيل:
_إنّ القدر شاء الفراق وسوف أرحل لأعيش في مكان آخر، مكان بعيد عنك بمئات الكيلومترات ولكنني سأبقى على عهدي معك ولن أخلف الميعاد أبدا. قلما أستطيع زيارتك. سأزور باقي أخوتك هناك، في تلك المنطقة، الأهواز، إنها أرض العروبة والنخيل، لابد وأن تكون فيها غابات نخيل. سوف أقطع عهودا جديدة مع نخيلها. كن مطمئنا، لم أفارقه. الوداع أيّها النخيل الجليل الشامخ. الوداع.
ودعت النخيل ومضت بضعة أمتار ثم التفتت إلى الوراء ونظرت إليه نظرة حنينة، بدأ السعف يهتز وكأنه يلوح لها ويستودعها الله، فرفعَتْ يديها عالياً مودعة إياه ثم ذهبَتْ، ذهبَتْ فابتعدت عن تلك الحدائق. ابتعدت أكثر وأكثر. كان الشيء الوحيد الذي يُرى في بياض ذلك اليوم هو نقطة صغيرة سوداء وهي تضمحل أكثر وأكثر. ابتعدت وبالكاد يمكن رؤيتها، والنخيل كان يلوح لها بسعفها المهتز. ابتعدت حتى اضمحلت والنخيل مازال يلوح لها…
****
هنا الأهواز المدينة، موطن النخيل. الأرض التي يحلم كل عربي في هذه الخارطة، أن يزورها ولو لمرة واحدة، هنا الأهواز موطن العروبة والكرم والسخاء، موطن اللغة العربية. كانت مفاجأة عظيمة بالنسبة لها، المدينة بأكملها كانت تخاطبها باللغة العربية وكأنّ جدران المدينة أيضا ترحب بها بلغتها الأم.
ذكرَتْ وعودها مع النخيل، استيقظت باكرا لتوفي بعهدها. وجدت نفسها باحثة عن النخيل من زقاق إلى زقاق ومن شارع إلى شارع ومن حارة إلى الأخرى. رأت من بعيد أغصانا تشبه أغصان النخلة:
_أنها نخلة… لا.. ليست نخلة… کأنها نخلة
مدت عنقها أكثر فظللت عينيها بيديها:
_ كأنها هي..
عدة نخيل غريب اللون، يميل لونه إلى الإصفرار، متمايلة أجنحته بتنسيق في كل إتجاه.
ازدهرت الابتسامة على شفتيها وزادت سرعة خطواتها. لم تبق سوى مسافة قليلة، رفعت رأسها لتنظر إلى النخيل مجددا، فوقفت فجأة. لم تصدق. أثبتت نظراتها على منظر النخيل، لم تستطع أن تحرك شبرا كأنّ قدميها تجمدتا في مكانهما. جفت تلك الابتسامة العذبة على شفتيها. تأوهت وهي تنظر إلى النخيل بحسرة.
ادارت وجهها الحزين نحو الغيوم. كانت الشمس تجر خطواتها ببطء نحو المغيب، قد توارى دفئها. ميّلت نظرتها من الشمس وراحت تتابع نظراتها طائرا صغيراً يحوم في فضاء الدوار، دوار وسيع ومعروف في الأهواز بخمس نخلات اصطناعية. إن الطائر مر أمام عينيها وحط على مقعد خشبي بجانب نافورة الماء الجافة والعاطلة منذ فترة طويلة، كانت تتابع بنظراتها ذلك الطائر وحزن عميق مرسومٌ في عينيها. الطائر طار ثم عاد ثم طار ثم حط على سعف إحدى تلك النخلات الإصطناعية. ألقت بنظرة على نهاية النخلة حيث السعف، السعف لم يهتز قط:
_ واحسرتاه لا نخلة في أرض النخيل…
قالتها بحسرة ولبثت عيناها جامدة وهامدة متعمقة في السعف والطائر كان يحط ويطير ثم يحط ويطير…
حساب الكاتبة في الانستقرام:
samaher_asad@