قضت وقتا طويلاً محدقة إلى نقطة بعيدة في الأفق. تأوهت وجلست، سقطت دموعها بغزارة. رأت أمها من بعيد فأنهضت جسمها. شرعت تمسح الدموع السائلة على خديَّها فهرولت نحوها وهي ترتجف:
_ماذا جرى؟ قولي؟ هل أستطيع أن أرى أطفالي؟ هل تكلمت معهم ؟
نظرت أمها إليها بصمت وذهول
_أخبرتهم؟ قلتِ لهم بأنني أريد رؤيتهم، أريد رؤيتهم، لا شيء أكثر، تكلمي أمي! هل وافقوا؟
لم تقل الأم كلمة، اكتفت بهز رأسها.
رفعت سعاد عينيها إلى أمها:
_لا. لا. لم يوافقوا؟! أصبح صوتها متقطعا وهي تترجى أمها أن تكلمهم مرة أخرى، كانت تصرخ وتبكي بهستيريا، توقفت فجأة عن البكاء فاتجهت نحو دارها. جلست القرفصاء في زاوية الدار، تخيلت منظر أطفالها وهم ملتفون حولها كالعصافير وهي توزع عليهم الحلويات التي جلبتها لهم من السوق، كان صوتهم يطن في رأسها وهم يجادلون على حصتهم من الحلويات:
_أمي، لماذا حصة محمد أكثر من حصتي؟!
_أمي، إبراهيم سرق مني حلوياتي.
_يا أماه! هل تشترين لنا مزيدا من الحلويات؟ إنها لذيذة جدا.
_نعم سوف أشتري لو أصبحت ولدا طيبا ومؤدبا
جلس على الأرض فتربع ووضع يديه تحت إبطيه:
_أنظري، كم أنا مؤدبٌ.
ابتسمت لذلك المنظر ثم شرعت بالبكاء، سقطت منها دموع كثيرة، وضعت يديها على وجهها، سقطت منها دموع أكثر، تسابقت الدموع على نحرها ثم صدرها فعانقت الوسادة، دست فيها وجهها وهي تبكي بحشرجة.
فتحت أمها باب الدار فانطلقت منها صيحة موجوعة حينما رأت جسد بنتها الهامد. عانقت جثتها النحيلة وضمتها إلى صدرها وهي تصرخ بحرقة وتلطم وجهها وصدرها وتولول.
تجمهر الجيران أمام منزلهم وبدأوا يستفسرون الأمر،
الأول تأوه فقال:ضاقت بها الدنيا فأختارت الموت، مسكينة.
الثاني: آخر الزمان. في الماضي كانت الزوجة تصبر على زوجها مهما سائت علاقتهما، كانت المرأة تصبر ولم تترك بيتها قط. تغير كل شيء، صارت الدنيا رأسا على عقب.
الثالث: لا تذهب بعيدا يا عم! ليست هي التي تركت البيت بل طرودها ومنعوا أطفالها منها.
الرابع : ضعيفة الإرادة، كان بإمكانها أن تتحلى بالصبر، الدنيا تضيق بنا جميعا وهل نختار الموت؟
_ كفاكم، ترحموا لها، يجب أن نذكر الميتة بخير. ثم إن الكلام سهل جدا، لو كنتم مكانها لانتحرتم منذ زمن بعيد ولقد صار جسمكم هباء منثورا.
اشتد الحوار بينهم، كانت الأصوات تعلو تارة وتهبط تارة أخرى، قال أحدهم:
_هذه هي نهاية الزواج بالإكراه، فرض عليها الزواج فصار ما صار.
قال آخر:
_ الذنب ذنبها، كان بإمكانها أن ترفض.
الرجل الذي كان متكئاً على الجدار رفع صوته وأشار إليه بصبابته قائلا:
_كأنك تعيش في غير الأجواء، قلت لك بأنهم أجبروها
على الزواج.
_ إذن الذنب ذنب أبيها.
_لنقل المجتمع القبلي.
_لماذا؟ ومادخل القبيلة بأبيها، هذا دأب أسرتها.
_ المجتمع القبلي مكتوف اليدين تجاه هذه الحوادث و لم يحرك ساكنا بل أراه يشجع ويصفق لهم على أعمالهم العنيفة. ثم استطرد قائلا: المشكلة هو أنك تنظر للأمور نظرة ضيقة.
_طبعا لم أشأ أن أبرئ المساوئ القبلية ولكنني…
_ولكنك ماذا؟
ارتفعت الأصوات مرة أخرى واشتد الحوار. عارض أحدهم حديثهم وقال بصوت جهوري حيث لفت أنظارهم:
_يا جماعة الخير، يا جماعة الخير أراكم تسطحون الأمور، قسما بالله، برأيكم كيف تنتهي مساوئ المجتمع والسلطة الحاكمة غير مهتمة، المجتمعات المتخلفة تقودها مسؤوليات متخلفة…ثم أي أب يريد المعيشة الضنكة لبنته؟! وأي مجتمع يريد تدمير المرأة، لقد قال العرب عن المرأة بأنها نصف المجتمع وهي التي تلد وتربى النصف الآخر. إذن تحطيم المرأة هو تحطيم المجتمع بأكمله. وأي مجتمع يأتي بالخراب لنفسه؟!
-إذن من الذي يريد هذا الخراب كله؟ من يسقي أشواك القبلية بيننا؟
أخذ الرجل يرسل نظراته إلى وجوههم قائلا:
_هناک من يسعی جاهدا لندور وندوووور في دوامة التخلف..
قال ذلك بصوت خفيف وبطريقة شبه رسمية وهو يتلافت يمينا ويسارا ينظر في الوجوه، ثم رفع يده، أراد أن يقول شيئا، حتى انطلقت صيحة من بيت المرحومة فأداروا وجوههم نحو البيت. الأم أغمي عليها فارتفعت الصيحات. جاءت سيارة الإسعاف، فحملوا الجثة معهم، تفرق الجمع وذهب كل واحد في طريقه وانتهى نقاشهم الساخن ليبدأ نقاش آخر في مكان آخر عن امرأة أخرى.
سماهر أسد
يناير 2021