أسندُ رأسي على النخلة
وأهمس في أذن دمیتي النشید الذي علمني إياه أبي….
نون النخل في البستان
….. یعطي بلحا مثل السکر…… وله سعف کالأغصان….. نصنع منه
حصیرا أصفر …… نون النخلة ما أجمله….
رائحة الخبز الساخن تملأ أرجاء البيت
تنتهي من تحضير الفطور، كالعادة تناديني کم مرة دون أن أنطق بکلمة لا أرید، أهز رأسي رافضة لا أجد رغبة في تناول الفطور
وأنا أجلس تحت ظل النخلة، مع هبة الریح
أسمع صوتاً کصوت الزغاريد من سعفها الجاف، أتطلع إلى قامتها التي لا زالت مرفوعة الرأس لم تنحنِ أبداً، بل ثارت ثائرة وحرکات ظلالها التي تمتد علی الأرض
تتحرك باعتزاز لترسم خطوطاً كخارطة وطني الصامد،ما السر وراء هذه النخلة؟ لم أرَ مثيلاً لها! ألديها روح؟!
أظن لديها! أری فيها العزّة والكرامة….
وکأنها تقول لن أنحني ولن أرکع لأي جبروت
فأدهشني سحر جمالها وهيبتها!!
أحدهم يطرق الباب بعنف، يهرول أبي حتی يصل، ما أن فتح الباب، حتى دخل الضابط عنوة وبعده عدة أشخاص، فامتلأ البيت من الغرباء یتکلمون بأصوات عالیة، أبي لم يسمح لهم بالدخول!! إذن كيف دخلوا؟!
بكل وقاحة قالوا لأبي:
_أن البلدية أصدرت أمرا بإخلاء البيت فوراً، فإذا لم تخرجوا سوف نهدمه على من فيه!!
یریدون منا إخلاءه، خلال دقائق! وبحجة أننا لانملك عقوداً رسمیة!
أسرعت أمي بتسليم المستندات إلى الضابط … أخذها وألقی نظرة سريعة إلیها ثم رماها علی الأرض!
غضب أبي من فعله الشائن،حاول أن يتفاهم معهم، لکنّهُ عبثاً يحاول! فارتفعت أصواتهم، واشتبک معهم بالأيدي لمنعهم من الهدم…. أحاول فهم ماذا يجري؟ ماذا يریدون منا؟ لماذا أصدرت البلدية هذا الأمر حقا؟ أكان بيتنا الصغير يجلب لهم المتاعب؟!
ما هذه الأوامر التي اتخذت بحق منزلنا؟!
من الذي أعطاهم الأمر؟
يأمروننا بالمغادرة!
کیف یریدون منا أن نترك بيتنا ونعيش في مكان آخر، يهددون باستمرار،حتی نغادر بسرعة، کأنهم جمیعا قد اتفقوا علی تهدیم بيتنا
وقعت دمیتي أرضا حين نهضت من مكاني، لا أريد أن تداس تحت أقدامهم، فأخذت أبحث عنها في جميع الأرجاء، فلم أجدها!
أحضروا الجرافة فبدأت بهدم الجدار، على الرغم وجودنا في الداخل، لا يهمهم أن بقينا تحت الأنقاض!
اشتدت أمي غضبا، لأول مرة أراها غاضبة هکذا، جلست علی الأرض ورفعت رأسها نحو
السماء، صرخت وهي تضرب الأرض بيدها وكأنها تريد ايقاظها لتحتج:
_من أين أتیتم؟
وماذا تفعلون هنا؟
بماذا تأمرون؟
هذه الأرض أرضنا؟ وهذا بيتنا؟
لن نرحل من هنا
ولا نريد أن نترك بيتنا
مهما تحاولون لن نتحرك من هنا
حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل
في تلك اللحظات لم أعد أسمع شيئاً ولاحتی صوت الجرافة سوى صوت واحد كان أعلى من کل الأصوات یتردد في ذهني فتصر علی البقاء
ولکن البيت یهدم ويدمر أمام عينيها وغبار يغطي وجهها والسقف علی وشك أن يسقط علينا، فتركنا البيت على مضض، في دقائق قليلة تحول بیتنا إلی کومة من الأحجار وجمیع الأثاث والأجهزة تحت الأنقاض.
إنها صدمة کبیرة لنا
وبعد أن دمروا کل شيء، أختفوا من أمامي کما ظهروا وأتمنى أن لن يعود أحد منهم للأبد
أبي یذهب باتجاه النخلة والأنقاض التي تحیط بها، بدأ یزیلها واحدة تلو الأخری
وأمي تبحث عن شيء ما من تحت الأکوام!
تألمت، النخلة التي کان يسقيها أبي کل یوم، واراها التراب هي الأخری.
ما ذنبها،ولم دفنت تحت التراب؟!
لم احزن لفدي ظلالها، بل لأنها حُرّةً لم يبدر منها أي باطل.