عقدة الموت/زينب الكعبي

عقدة الموت/زينب الكعبي

اسدل الليل ستاره فغفت الأعين وساد الصمت أرجاء المدينة، ألقى بجسده المنهك على فراشه ووضع يديه تحت رأسه وهو ينظر إلى السقف الذي قُلع طلاؤه في الحرب، كان في عينيه بريق من حنين، أو لعله حزن أثقل كاهله، فالجميع هنا على ذمة التهميش والغياب، ثقلت أجفانه رويدًا رويدًا وأرخت رموشه لتعلن استسلامها لباقة نوم تغازله.


أشرقت الشمس يومًا جديدًا في تلك البلدة التي يحتضنها كارون وشط العرب، معظم أهلها بسطاء، تنتشر فيها شركات البترول والمصالح الحكومية، لها تاريخ في الوطنية يعد مضربًا للأمثال، تحيطها النخيل من كل حدب وصوب، تختلط فيها أصوات البائعين الذين يقتحمون ضجيج الناس بضجيجهم المُكافح..
أحسّ بمرورة في حلقه، ذهب ليغسل وهو يردد مع نفسه: ( يا له من صباحٌ مُر! الله المستعان…)، جهزت أخته الفطور، جلس مع أبيه وأخيه وهما يتحدثان عن أجرة عملهما اليومي في عبادان. ينظر إليهم وحالة البؤس واليأس تجدح من عينيه ويبحث في صبر لافت عن كل مايزيل شعوره الطاعن عن غربته ووحشته وهو يرى قلوب أبناء وطنه مرهونة بالشتات وأبواب وطنه مفتوحة إلى الأغراب، ذهب أبوه وأخوه إلى العمل وهو نهض ليجلس عند رأس أمه المريضة وضع رأسه بين ركبتيه ويفكر في الظروف المعيشية الصعبة، الصمت يعم البيت لا يسمع شيئا سوى صوت ارتطام الأكواب والصحون في المطبخ، دق أحدهم الباب بقوة قام مسرعًا وفتح الباب، كان أحد أبناء القرية دون أي سلام أو كلام قبل أن يفتح فمه بكلمه، أخبره بأن المبنى الذي يعمل فيه أبوه وأخوه انهار مع كل العمال الذين يعملون في داخله! كاد نبض قلبه أن يقف فماذا سيقول لأمه وأخته؟ ذهب مفجعًا إلى أخته وأخبرها بالأمر فبدأت الدموع تُذرف…
ترك البيت بقلبه المفجوع مسرعًا مع أبناء القرية في سياراتهم متجهين إلى عبادان، وصل وظل واقفًا جامدًا في مكانه، ينظر إلى الناس وهي تركض، تتكاثر الأموات ويرتفع النحيب والصريخ.. ترتجف ساقيه، ما عادت تحمله أكثر من ذلك، صار يمشي ويسقط ويتعثر… حتى وصل شارع الأمير، كانت الناس تركض يمينًا وشمالًا، منهم من يحمل بقايا أخيه وابن عمه بين يديه ومنهم من ينادون الرب بأعلى أصواتهم لعل يسمع نداءهم ويستجيب لهم ويمحي كل هذا الظلام والسواد الذي يحيط بهم منذ مئة عام، أقترب أكثر إلى الركام، أجسادًا مندثرة وأرواحًا تعلن رحلة النهاية هنا، يمشي على أطراف أصابعه فلعل قلبًا صغيرًا انتشر هنا فوق هذا الرصيف، عليه أن يحني رأسه قليلا ويتجنب النبش العنيف، أنامل شباب هنا تحت أطنان الأسمنت، هذه ألعاب مخزوعة، يخرج الصوف من منخارها وقليل من الدم، هذه كتب (مليكا) أقلامها، دفاترها…هذه حقيبة (فاطمة) هنا، وهذه أكياس الأرز التي يحملون بها العمال قوت يومهم، صار يبحث كالمجنون عن أجزاء أبيه وأخيه، لا صوت لفريق الإنقاذ هنا، الناس للناس هنا الكل يبحث لعلهم يجدون قطعة من ذويهم تحت هذا الرماد، أبٌ يرفع الأحجار بدشداشته ليرى أثرًا لابنه، أختٌ ثغيبها يدوي وهي تلملم أحجار الأسمنت بيديها بحثًا عن أخيها وزوجها، وأمٌ توّن وتبكي بأعلى صوتها من خلف الهاتف وهي تودع فذة كبدها وهو ذاهبٌ إلى نقطة النهاية، صوت الريح والتراب يعلو ويبعث بذرات رمالٍ يتيمة تدخل في عينيه، تبحث عن ملاذ آمن بعيدا عن هذه المدينة! درفات أبواب المحلات تتخاصم، شم رائحة أبيه تحت الركام، احدودب ظهره وجلس إليه وصار يصرخ بأعلى صوته إنه جثمان أبي متناثر هنا، تتعالى صرخات النساء والفتيات من حوله، رائحة الموت تحوم حوله، مرت ساعات ولم يجد أي أثرًا لأخيه، غابت الشمس وتحول شارع الأمير إلى معسكر للقوات القمعية!! مشهدًا يأخذ بصحابه إلى الذهول، لا يعرف هل حربٌ قامت هنا أم الحرب في انتظارهم!
وفي حين غرة علا دويّ الرصاص ليهز ما تبقى من المبنى!، لقد هجموا على المتظاهرين في الشارع الثاني يريدون اسكاتهم! صوت الحق يأكل أحشائهم! جلس على جانب من ركام أحد المحلات، وضع رأسه بين يديه، مسكه كي لا ينفجر، رفع رأسه وهو ينظر إلى الناس وهي تبحث بين أطنان من الأسمنت عن باقي الضحايا، سمع صوت الأم التي اتصل بها ابنها بعد انهيار المبنى بساعة، جالسة بجواره والدموع تهطل بغزارة من عينيها تبكي وتصرخ باسم ابنها، نظرت إليه فإذا بنظرتها تنطق بؤسًا، أخذ قنينة ماء بيده وأقترب منها، نظر في وجهها فإذا به شاحبا هزيلا وقد تكونت هالة سوداء حول عينيها، أشارت بعينيها أن يقترب منها وفعل، فقالت له وهي تنحب: ” إي ابني العيب بينا مو بالوطن! العيب بذاك الجبان الباع أخوته بأرخص ثمن! يماا… العيب بذاك الطاغي اليقتل أولادنا مثل النخل بالعلن..!”
ارتفع صوت الرصاص وتكاثرت الأصوات قام وركض مع الشباب إلى ساحة التظاهر، المكان مكتظ بالرجال والنساء كل هؤلاء في جهة والقوات الأمنية في الجهة الأخرى، لا شيء لديهم للدفاع عن أنفسهم سوى أصواتهم وصرخات النساء! يركضون وراءهم بالرصاص دون رحمة لا ملجأ لهم غير الركض إلى اللانهاية! فجأة أحسّ بألم مبرح في ظهره وشعر بدم دافئ يسيل على جسمه، سقط على الأرض لا يرى شيء سوى هياكل واقفة فوقه وهي تنادي الله أكبر… الله أكبر..

زينب الكعبي

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات