كانت صورة الطفل الجميل تظهر تارة تحت ضوء مصباح الحديقة، وتختفي تارة خلف ظلال الأشجار.
هكذا رأيته عندما كنتُ حارساً ليلياً في إحدى حدائق المدينة.
كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، والحديقة خالية من الحركة، إلا حركته التي دلتني عليه.
تساءلت مع نفسي: من هذا؟ وماذا يفعل هنا بمفرده في هذا الوقت المتأخر من الليل، حيث يتربص المحتالون والسارقون لأي فريسة يجدونها في هذا المكان، كأي مكان آخر في المدينة؟
تقربت منه ووجدته يحاول الاختفاء مني، فصحت عليه: من أنت؟ تعال هنا ولاتخاف.
خرج من خلف الشجرة وتقرب مني بحذرٍ وخوف، وقال لي (بالفارسية): أنا لستُ سارقاً؛ أنا أنظف زجاج المركبات عند إشارة المرور تلك. وأشار بيده النحيفة التي غطتها أوساخ زجاج المركبات التي ينظفها، إلى إشارة المرور وهو يرتجف خوفاً.
يااللّه… طفلٌ في الثانية عشر من عمره، وبجمالٍ فريد من صنع الخالق؛ لكن السهر والدخان المنبعث من عوادم المركبات طَغَيا على جماله الفريد، وبدا كالمشردين الذين يجوبون الشوارع بلا مأوى.
مَن الذي لديه قلب يطاوعه أن يترك برعماً بهذا الجمال في هذا الوقت في الشارع؟
ألا يجب على أهله أن يهتموا به وبمستقبله؟
ألا يجب على أمه أن تغمره بحنانها؟
ألا يجب على أبيه أن يشقى ليكون ابنه في نعيم؟
أين مثل هذه الآباء من التضحية مقابل سعادة أبنائهم؟
تغلغلت كل هذه الأفكار في خلدي، ممزوجة بالحزن الشديد، برمشة عين، وهو مايزال أمامي وينظر إلى عينَيّ.
قلت له: هل أنت وحدك هنا؟
قال: لا … سيأتي أبي بعد قليل… لأنه تركني هنا أعمل بتنظيف زجاج المركبات منذ الساعة التاسعة مساءً مثل كل يوم… ويأتي الساعة الثالثة صباحاً ليأخذني إلى البيت.
عرفتُ من لهجته أنه ليس فارسياً.
قلت: أأنت فارسي؟
قال: لا… أنا عربي!
قلت: لماذا لاتتكلم بالعربية؟
قال: هكذا وجدت نفسي…
أهلي يتكلمون معي بالفارسية لأنهم كانوا يخشون من دخولي المدرسة دون أن أتعلم اللغة الفارسية.
قلت: في أي صف أنت الآن؟
ألا يجب عليك أن تكون في البيت وتهتم بدروسك بدلاً من العمل في الشارع وفي هذا الوقت المتأخر؟
قال وهو يبتسم، (وشرُّ البلية مايُضحِك): ابتعدت عن الدراسة وامتهنت مهنة تنظيف زجاج المركبات، لأني وجدتُ نفسي لاأفهم شيئاً من الدروس.
قلت: لماذا لاتفهم شيء؟
قال: لأنني غبي… هكذا كان يقول لي والدي عندما أرسب في أحد الدروس.
قلت له: الغباء صنيع أفكارك… بإمكانك أن تكون غبياً متى شئت… وبإمكانك أن تكون ذكياً متى شئت… لاتجعل الآخرين يصنعون منك إنساناً غبياً وتافهاً… قدّر ذاتك بنفسك ورتّب لبنات شخصيتك بدقةٍ وعناية… أبوك الذي يقول عنك إنك غبي، ها هو يتركك وحدك تعمل في الشارع ولا يبالي لأمرك… اترك الشارع وارجع إلى دراستك… لاتضيّع نفسك في الشوارع… حاولت أن أقنعه أن يترك عمل الشوارع ويعود لدراسته، لكن…
فجأة وقفت دراجة… : تعال (رضا) -صاح عليه بالفارسية-.
حضن كيس الرز المليء بأدوات عمله، والماسحة وقنينة سائل التنظيف بيده الأخرى، وركض نحو أبيه وقفز على ظهر الدراجة.
سمعت أباه يقول له: قلت لك ألا تتكلم مع الغرباء.
بدأت عجلات الدراجة تدور ببطء، ثم أسرعت وغابت في عتمة الليل.
هل هذا هو دور الأب الراعي الذي يجب عليه أن يكون مسؤولاً عن رعيته؟
أين حقوق مثل هذه الأطفال ، من تعليمهم بلغتهم الأم، ومن رعاية عوائلهم التي تحتضنهم؟
عندما يترعرع الطفل في مثل هذه البيئة، ماذا سيكون مستقبله؟
بدأت هذه التساؤلات تدور في خلدي، لكن دون إجابة.