ضحية التحدي/توفيق الساري

ضحية التحدي/توفيق الساري

كان والدي يثق بيّ كثيرا وأنا شابة يافعة، وعلّمني أن أعتمدَ على نفسي، وحتى بعد زواج أختيّ اللتينِ كنت أنا ثالثتهما، تقدم لخطوبتي عدّة أشخاص وعندما كنت أرفض بحجة أن أريد أكمل دراستي، كان أبي يأخذ برأيي.

وأما فجأة انقلب كل شيء، ومُزقت خريطة مستقبلي المرسومة في خيالي.

نعم أتذكر جيدا تلك اللحظة التي غيّرت مسير حياتي، كنت في الغرفة جنب المدفأة النفطية لاهية في كتابة دروسي، وسمعت أبي مناديا والدتي بصوتٍ عالٍ: أين سجلّ أميرة؟
-سجلّ أميرة!؟
-نعم أريد سجلّها مع صورتين منها.
تركت كتبي مبعثرة وذهبت مسرعة نحو أمي، وحدقت النظر في وجهها الباهت، ورأيتها بشفتيها الراجفتين وبصوتها المرتعش، تطلب من أبي أن يتكلم معها بهدوء.
فردّ عليها أنا زوجت أميرة من أحمد.

-أيّ أحمد هذا؟
-أحمد ابن أختي سلوى.

وما كان ليّ من سبيل إلّا الرضوخ لأمر والدي، وارتداء فستان الخيبة كي أنساق إلى قفص اليأس والفشل، وأنجب طفلة لمستقبل مظلم.

قطع حديثها طفلٌ يريد شراء دُمية بلاستيكيّة من بضاعتها المفروشة على الرصيف.

بعد ذلك سألتها: ولمَ تغيّر سلوك أبيك مرةً واحدة؟
ردّت حانقة:
ما أثار غضبه إلّا قول عمتي:
أنت ليست لك كلمة في بيتك، ولو كان غير ذلك لزوّجت ابنتك من ابني.

فهَاجتْ عواصف التحدي في أحاسيس أبي وجنى عليّ ونسي ما غرس في قلبي من أزهار حبٍّ وود، وقضيت تسع سنين كالسجينة مع مدمن مخدرات لا يفهمني ولا أفهمه.

شغلها عن سرد قصة حياتها رجال البلديّة، وبدأت تتوسّل بهم أن يتركوها هنيهة حتى تجمع بضاعتها المتواضعة.

وشرعتْ تُلملمها ببطء، يبدو أن تصفح أوراق الماضي سلب قوّة جسمها النحيل المحجب بثيابٍ رثةٍ تفوح منها روائح الإملاق والإفلاس.

ثم رفعتْ رأسها ونظرت في عينيّ وأدركتْ كم أنا راغب لاستماع قصتها.
فتنهدتْ قائلة؛ بعد أن عصفت سموم الخريف وبقي ربيع حياتي ممزق الأغصان، وصل يوم الانفصال، اليوم الذي كنت مواعدةً أهلي إيّاه.

وصرخت صرخة صامتة وأصابعها باشرتْ بمسح دموعها التي انسكبت على وجنتيها الشاحبتين من هبوب الرياح وسطوع الشمس.

ثم أردفت:
نعم يا ولدي هكذا نار الجهل لهبت بستان حياتي وجعلته هشيمًا تذروه الرياح.

ولم تهتكني تلك العواصف الشديدة وحاولت أن أنزع رداء ذكرياتي المؤلمة وأعيش كما يحلو لي، ولكن يصعب ذلك في مجتمع تُرجم المطلقة فيه بعين الحقارة بغض النظر عن الأسباب.

توفيق الساري

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات