لا أحد غير الأم يشعر بمرارة الألم والحرقة عند فقدان فلذة كبدها..
أحيانًا تكون الصرخة مدوية لدى الثكالى، أما الآن فقد أصبحت مكتومة..
ننصتُ لذبذبات صرختها الصمّاء كأنما وضع عليها كاتم صوت!
صرخةٌ تختفي مع كل الأصوات المتسربة من خفايا الكون
لم تزل أم خالد وفي كل يوم قبل ذهابها إلى بسطيتها في السوق، تتفقّد غرفة ابنها الراحل وتجالس ذكرياته وملابسه والعبارات المتناثرة على جدران غرفته، اغرورقت عيناها عندما مرّت ذكرى أفاقت بها آمالها المُهشّمة..
-خالد ألا يكفيك هذا الكّم من الورق لكي تملأ جدران غرفتك بهذه العبارات ؟!
لقد كان طفلًا شقيًّا.
أخذت تمسح وتنظّف الجدار: وطن، أرض، نخلة، هوية.. هكذا جملات متقطعة وبعض من الرسومات تحملُ في طيّاتها الكثير من المعاني الكبيرة بالنسبة لطفل لا يتعدّى عمره التسعة أعوام.
عيناها اتجهتا لأعلى الحائط حيث هناك ذويها، ينظران إليها بابتسامة هادئة مليئة بالكبرياء والشموخ. صورتهما المغلفة بالغبار أخذت الكثير من عمرها
يا لها من مأساة، فلقد سلكوا نفس الطريق، كم كانت الأرض كريمة لتأخذ أعز ما لديها زوجها وابنها..
استرجعت ذكرياتها وكم كان الحزن يحيط بحياتها..
السيّد مالك، أبو خالد كان يعمل في الشريكة التابعة لحقول النفط، لم يطل في عمله حتّى فُصل منه، واستبدلوا مكانه مستوطن من مدينة أخرى وبقي هكذا عاطل عن العمل، في بعض الأوقات يأخذ خالد في جولة وحين ذهابهم وإيابهم يحملق خالد في تلك الحقول القريبة من بيتهم، تدور تساؤلات كثيرة في رأس خالد حين يرى الدّخان المتصاعد من حقول النفط، يعدُّ حقول النفط في أنامله الصغيرة الرقيقة كما يسميها الدويرات المشتعلة.
كانت أم خالد تحت أشعة الشمس تكسب قوت يومها من بيع الخضروات في السوق، لم يكن مالك يشعر بالراحة، كل ما يعتريه الشعور بالعبء والألم تجاه زوجته المتعبة وابنه الذي بحاجة إلى الملابس والألعاب ومصاريف المدرسة، كلّ ما تجنيه أم خالد كان يسدّ جوع عائلتها لا أكثر، بقي يراوح بين الفينة والأخرى إلى الشريكة، ربّما يكون هناك أمل لاسترجاع مكانته في العمل، وكان في كلّ مرّة يُرفض..
مالك يذرف الدموع على حالتهم المزرية.. وقد بانت معالم الضيم والحرمان في ملامح وجهه..
تذكرت ذلك اليوم المشؤوم حينما رافقاها خالد وزوجها مالك إلى السوق لكي يساعدوها في البيع ولسوء الحظ أتت البلديّة وأمروا بجمع بسطيتها وهنا صرخ في وجههم زوجها واشتعل نار غضبه فأبرحهم ضربًا حتّى أمروا بإطلاق النّار عليه وحينها شهق خالد وركض نحو أبيه فأتت طلقتان وأخذت أعز ما لديها… لقد ترمّلت وتثكّلت في آنٍ واحد…
أخذت أم خالد ترفعُ رأسها إلى السماء: ربّاه ما الذنب الّذي ارتكبناه؟! وما عسانا أن نفعل إذ كُنا نعيش على أرضنا ولم نجد فيها حياة تليقُ بنا! ها قد أخذوا كل شيء..
أفاقت من ذكرياتها المؤلمة ومسحت
دموعها بشيلتها العربيّة وعدّلت من عصابتها وذهبت إلى بسطيتها..
” زينب الطرفي”