أزاحَ التُراب عن عينيه، لم يعد يُقاوم ذلك الضوء الآتي إلى بَصَرِه بغتة، أغلقهما مرّة أخرى، أراد أن يستعيد ذاكرته، من أين أتى؟! وأين هو؟ ولمَ هذا النور بعد زمن طويل من العتمة والشقاء حيث لا حياة هناك ولا أمل، استعان بيديه كي ينهض من مكانه، لكن لا جدوى..
بدأ يشعر بالدوار وصداع كاد أن يخترق جمجمته ووخزة تسري بيدهِ اليُسرى، أدرك أنها حيلةٌ أخرى كي يحيطوا به كي يتمكّنوا منه ويميتوا جزءًا آخر من كيانه، أن يسلبوا هويته، هو الوحيد بين أصدقائه في الزنزانة كان يحب الحياة، ويردّد على مسامع السجناء:
“وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ….”
عكس صديقه حسن الذي طالما كان يردّد “نموت كي يحيا الوطن…” يرى في تفاصيل صموده وشجاعته أخيه أيمن رغم صغر سنه.
بدأت تتضّح الصورة شيئًا فشيئًا، ظهرت الوجوه، الأحداث، الأصوات، كشريط فيلم قبل خروجه لهذا المكان الذي يضّج بالحياة، رُبّما بالموت…
كان قد سمع المعتقلين حديثًا يتحدّثون في ما بينهم عمّا سيفعلونه بهم، سيحوكون لهم مؤامرة أخرى، سيدسون لهم شيئًا في الطعام أو سيجعلون منهم طعام للسمك.. لم ينطق ببنت شفة، جلس القرفصاء هائم في أحلامه ما هيَّ إلّا ساعات وقد سمع وقع أقدامٍ تتجه نحوه، هيأ نفسه للشتم والركلات التي سيتلّقاها في كل مرّة.. عصبوا عيناه وهم يشتمونه أخذوه إلى حيث ما أيقن أن يأخذوه، إلى زنزانته الإنفراديّة، كان في كل مرّة يكتبُ حرفًا على الجدار واليوم تكتمل جملته الناقصة، “الوطن زنزانة…”هكذا أكملها وغابَ عن وعيه..
استجمع كل ما فيه من قوّة ونهض، فتح عينيه في الجهة الأخرى رأى جسر محطّم لم يبقى منه سوى ركام وعواميد نصفها يغيب بسماءٍ يغطيها التُراب، بدأ يتفحّص المكان كأنما يبحث عن شيء ضائع أو شيء سُرق منه، حاول أن يجده، رأى بين النفايات المتناثرة على الأرض عُلب البلاستيك وعُلب الكرتون ركض ينادي أخيه أيمن كي يجمعوا تلك الأشياء كما كانوا يسمّونها ” الأشياء الثمينة ” حتّى يكسبوا قوت يومهم… لكن سرعان ما تبددّت ملامح الفرح والدهشة من على وجهه تقدّم خطواتٍ إلى الأمام أعادهُ صوت محمود درويش إلى واقعه المُرّ وهو يدوي في أرجاء المدينة: دمٌ ودمٌ ودمٌ في بلادي… وحشرجة الجثث الملقاة على حافة الطريق، استفاق من صدمته رأى هناك تحت ذلك الجسر أرضٌ قاحلة مضرّجةٌ بالدماء…
آنذاك كانوا قد أنزلوا عليه بوابلٍ من التُهم، يردّدون على مسامعه: أنتَ من حرّضت المياه، أنتَ من حرّضت المياه..
والآن لم تكن هناك مياه بل دماء…
مدَّ يديه نحو الأرض وأخذ يغتسل بالدماء واتجه نحو طريقه المحتوم..
“زينب رحيم”