ذات یوم کنت في بیت جدي في ذلك البیت الذي کبرت به أنا وأبناء عمومتي، دخلت الغرفة التي کنا نلعب وننام ونأکل فیها.
فتحت النافذة وشممت رائحة المطر، کان جواً لطیفًا یمس قلبي، نظرت إلى الشارع،ذالک الشارع القدیم الذي یسمونه شارع الفقراء، غلقت عینيَّ وتذکرت أیام طفولتي وأصدقائي، کنا کالعصافیر على أغصان الشجر، نصعد من ظهر أبي إلي ظهر جدي ومن کثرة الضحک کانت تدمع عيوننا ولم نفکر بلحظةًٍ بعدها، کنا نعیش ببساطة وعلی مديٰ الیوم نکتب ونقرأ ونلعب ، کان جدي معلمنا الحنون، یجمع ابناء الشارع في کل یوم ویشکل لنا صفاً جمیل جداً، ولکن ابناء حارتنا کانوا یجتمعون على ناصية الشارع ویضحکون ویقولون هؤلاء هم الفقراء التي لیس ملابسهم کملابسنا، ولیس طعامهم کأطعامنا، کنت أحزن بشدة ویخنقنی البکاء مع ذالڬ کنت قويا.
ذات یومٍ رجعت من المدرسة فسألت جدي، یا جداه ینادونني في المدرسة ابن الفقیر ، من هم الفقراء؟
کان یمسك یدي ویقول: یا بُني نحن ضعیفین المال ولسنا فقراء، الفقیر: هو الشخص الذی یفکر بنفسه ولم یهتم بغیره. الفقیر هو الذي لم یهتم بالإنسانیة ولم یعرف أصول الاحترام.
قلت له طیب، لماذا نحن نختلف عن بعض أصدقائنا في المدرسة، کان الدمع ینهمل بعینة ولکن قال لي بیتاً من المتنبي لم أنساه للأبد: مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ
تجرِي الّرياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ
#متنبی
کان کلاماً کالذهب ولن انساہُ ابداً
کانت الذکریات ببالي تدور وشعرتُ أني رجعت مرةً أخرى طفلًا صغیراً في شارع الفقراء، طفل ذلك الشارع الذي أبناء من طیناً معجون بماء الورد
کنت أقف في وسط الشارع وبمخيلتي أرى من بعید شباباً، مثلنا ينادوننا، آنذاك رجفت من شدة البرد وقلت سأشهد أني أکون یوماً ذلك ابن الفقیر الذي أصبح غنیاً بالعلم والإنسانیة ولیس بالملابس و الطعام وسأساعد کل فقیر.
عندما کنت طفلاً کانت أمي تخبئ عني حقائق الحیاة وکانت تمسك یدي وتقول لي هذه هي الحیاة ستصبح یوماً ما ترید ولکن عليك أن تكون صامداً وقوياً أمام صعوبات الطریق، کانت تحکي وتبکي بصمت وتخبئ دموعها لأبقى طفلها السعید.
کانت تقول لي: إیاک أن تنسى من کنت عندما تكبر، وإذا سافرت لأي بلدٍ آخرٍ وسألوا منك أنت من أین، يكفي أن تقول انا ابن شارع الفقراء وأختم الکلام،
عصفت الریاح وشممت رائحة العنبر التي کنت أتمني أن أشمها مرة .
فتحت عینيَّ ورجعت من سفر الطفولة، والآن کبرت وأصبحت طبیباً وابن عمي رساماً وأختي معلمة، واجهنا کل الصعوبات وأصبحنا بأعلى المراتب ولا أحد منا نسي کلام جدي حینما قال لنا: کونوا أسوة لحارتکم.
أصبحنا أسوة لحارتنا ولکن لم ننسيَ اننا کنا أبناء الفقراء.
رغم کل شيء نقوله ونکتبه یبقی في القلب أشیاء أکبر من أن تقال.
((محمود درویش))
زهراء سرحان