سَلمَان والجَاموس/ سندس علي

سَلمَان والجَاموس/ سندس علي

لم تَعد الأنفاس تعلو ويصعب على القلب الجريح الخفقان، أظنه يريد الذوبان والعدول عن الضخ المرير ..أيستقيل عن الالتصاق بجدران الصدر أم يستمر بالدَقِ على الطبل، حتى تَتَشقّق السُدود وتَتَناثر الأحلام المُغتصبة كالبركان.


بَطش العطشِ والجَفاف، قَدَتْ أنغام حُروفهم تَتَقافز أعلى مَساحات الأجساد.

تُشَذّبُ الجلود وتكوي اسم الموت على بَصَمات الأصابع. موت لا يَشيح بسحنة عن الجار والجاموس والطير والسمك.
صَنَع الأجل زحلوقَة ليتَزحلق على قوقعة البشر.

جَفاف وخَراب ودَمار، مُفردات مُلتوية مُكبلة مُنصهرة، ملأت بُقاع وطني برائحة الجيف، ها هنا مات كيان الوطن وتَصادر جُثمانه المُقدس، ارتمى ليبدو نائياً دون رجعة لا تلحظه تَداعيات البشر.

جسد أرضي أصابه الجفاف هل من دواء أبتاعه لكي یستعيد كرامته؟
هل من حكيمٍ وشاعرٍ ومُثقف ومُعلّمٍ ومُوظفٍ وطالب تتكاتف وتتشابك أياديهم لينتشلوا رداء الحرية الذي نُهب؟ ودُحرج ظلّه فوق جسد النهر المُشبع ببكاء السمك والعشب وأشجار النخيل. غضب هادر ينتفض في النفوس.

سلمان الأبكم والأعرَج وقف بِضفاف الهور يختطف الأنظار و يَهزُّ اليافوخ المُلتهب ويُصفق كفه الأيمن بالأيسر. تكويه تأوهات الجاموس وأنينها فقد شاهد جُلودها المُتقرّحة تنسلخ وهي تنفثُ أنفاسها الأخيرة بمرارة.

شَمَّر عن أكمام دشداشتهُ العريضة وتناول وعاءً مُتوسط الحجم. جَرجَر خطواته الهَرِمة بثقل، يَتأهّب ويتوخى الحذر كي لا تَندَسَّ رجليه بشقوق الأرض مَفتوحة الفآه؛ أخذ يجتهد حتى وصل عند رؤوس الدَّابَّةِ وقد سَاخَتْ قوائمها بالطين اللَّزج. وضع سلمان الوعاء أسفل أعينهم واحدة تلو الأخرى ليجمع قطرات الدموع المُنسابة بغزارة أكثر بكثير من تدفق مياه الهور.

امتلأَ الإناءُ حتى طَرطَش القطرات عن الحافة.
التَفّت أذرعَهُ حول الإناء. حَمَلَهُ ودَلَف يَتلفّت وراءهُ ويبتسم بطرف شفتيه لجُثث الجاموس المُرتمي والمُصطف بوسط الوحل. كانت تلتف حول بعضها كلفافات قماش أسود قد تَهَزّل واهتَرى إثر الجو الحارق واليُباس. بدا كأنما يهمس لها: تمهلي ..تمهلي.. فالصمت العاقر سوف يجهض أجنَّة الحنق الدفين عما قريب.

سلمان لا يهوی هدر الوقت والوقوف الأعرج كالباقين. كانت آنذاك عيون الرجال والنساء تمتد من محاجرها المظلمة. وهم مُنغَمسون يُلوحون بأيديهم المُرتعشة للموت البطيء. لم يكتف سلمان بالتحديق فشعر بقبضة الزمان تخترق حنجرته وتخنقه رويداً رويدا. جلب الوعاء وسلك مَمَراً ضَيّق بين البيوت والأزقّة دَخل في جَوف الدار الفَسيح وحيطان الحوش تحتويه من الجوانب. بمُنتصف الساحة، أسفل النخلة الشاهقة كانت مُرتميةً تتلوى من الألم .التمعت عيناها المُستديرة الواسعة بفرحة عارمة حين رؤيته يقبل نحوها محملاً.

تَسارعت نَبضات قلب سلمان الأبكم وصارت تُسابق وتُصارع دقات الساعات. اِنفرجت شفتا سلمان عن بسمة مشوبة بالتوجس والقلق.

أطلق زفرة طويلة همهم بكلام غير مفهوم . فقد عاشت في أذنيه وعلى فمه هوسات البطولة. كانت تلفظها شفاه الرجال والنساء بوقت الحماس وتأجج مشاعر الكره ضد الدخلاء. واليوم أمتطى الصمت صهوة أهازيج البنادق وعَلَكَها حتي تَقَطَّعت أنفاسها .

قرب الإناء من فم الجاموسة وأومأ لها بأن تشرب. أدنت الجاموسة أنفها من حافة الإناء وظلت تشتم وتشتم. أخرجت لسانها الجاف كالاسفنجة المُتشقّقة وحاولت لقعَ الماء ولكن دون جدوى، مَسَحَ سلمان على رأسها وراح مُغترفاً الماء براحة كفيه المُكورتين لكي يساعدها. وفجأة أصابها الذُعر والذُهول وصاحت صيحة مدوية. كان يومض في عينيها ذلك الغضب المشوب بخوف.

نشلت جسدها المُلتصق بالأرض وراحت تقف على قوائمها الأربعة عبر مراحل بعناء شاق .. نظرت إليه نظرة حادة وصوت أنين منقطع ينهدر من مسالك قصبتها.

أدرك سلمان أن رائحة دموع الجواميس قد ألبَسَ عقلها الجنون وغَرَسَ الحزن بنفسها. واندفعت تَجري وتَتَخبط بجدران الحوش وجذوع النخيل.

تحفر وتُبعثر بحوافرها التراب. كأنها تقول له ويحك يا سلمان أتُلبسني ثوب خطيئة قد اقترفها بنو جنسك وتُسقيني مرارة القطيع؟
أتريد أن أتلذلذُ بمذاق العلقم والعار؟

وأن أدفن بين القصب والبردي المُتفحم كما هي حال باقي القطيع؟ ظل سلمان يرقب هذا المشهد بصمت مشلول وقد تحشرجت حَسرة في صدره وهو يرى جاموسة تُبصق قيودها ومن ثم تسقط إلى الأرض.

وعندما حاول تحريكها وجدها ميتة. اِنقَلَب أنينه صراخاً حاداً. اِرتَعَشَ ذهنه للحظة وتَذَكّر ذاك الوجع الذي ظل مُختبئا في أماكنه منذ زمن طويل وهو يرقب أمام عينيه لسانه المَقصوص يُرمى للكلاب فتنهشه. ولم يعد يجد نفسهُ مُلزماً على حمل الهوان والخزي المُرهق. عَضَّ على يدهِ ندماً وألماً وراح ينهض ليقتلع عن نفسه اللسان المَشلول ويَستَفرغ الكلمات المَشنوقةِ أسفل الجسور القاتمة.

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات