زائر عريبي من أهالي قرية ربيخة في الأهواز.
بسبب صعاب الحياة هناك؛ انتقل للعيش في مدينة عبّادان، وفي الحرب الإيرانية العراقية عاد لمسقط رأسه في الأهواز.
كان يحب صلة الرحم والتواصل، ويزور أقرباءه وأصدقاءه بين الحين والآخر.
عندما يأتي لزيارتنا ولم يكن أبي موجودا في البيت؛ أنا أنتهز الفرصة وأجلس بقربه في المضيف، كي أسرق سيجارة من وسط علبة تبغه.
وفي الفترة الّتي ننتظر فيها مجيء أبي؛ أشغّل له المسجّل.
وأعلم بأنه يحب الاستماع إلى المقام العلواني وتحديدا للفنّان: علوان الشّويّع.
حينما أضع ذلك الشريط في المسجّل، كنت أعلم جيدا، عندما يسمع الأغنية سيبدأ بالبكاء، وهذا ما كنت أطمح له عندما كنتُ طفلا مشاغبا…
ولم أفكر يوما بأن أسأله عن سبب بكائه.
ويشتد بكاء زائر عريبي، عندما يصل علوان الشويع إلى أحد أبيات الأبوذية الذي كان الشاعر يذكر فيه الطيبين؛ الذين رحلوا من بيننا وأصبحوا تحت الوطئة.
كنت أضحك عليه دون أن أعرف سبب ضحكتي…
واليوم أنا أبكي على كل شيء يذكرني بالماضي، اشتقت للمرحوم زائر عريبي ولكافة شيبتنا، وإلى تلك الأيام الجميلة…
لم تنته القصة لأن الدمعة لم تجف، لا زالت على الورقة تتحدّث عن الماضي الجميل…
وأما أجمل ما في القصة؛ هي فرحة زائر عريبي وأبي عندما كانا يتحدثان عن ذكرياتهما القديمة…
حينما كان أهل القرية يذهبون معا إلى مدينة المحمرة؛ من أجل العمل هناك في فصل جمع التمور من نخيلها المكثف…
وبين كلامهما كانا يذكران طيبة ناسها وكرمهم، وكان ذكر المرحوم الحاج عويد البغلاني (أحد أصحاب مزارع النخيل في الجزيرة)لا يفارق حديثهما…
وكان يكرمهم حين وصولهم هناك
قائلا لأهالي جزيرة صلبوخ:
هؤلاء العرب؛ هم أبناء جلدتنا وأهلنا ونعتز بهم، فديروا بالكم عليهم.
تأوه الزائر عريبي قائلا: مع الأسف الشديد، انتهى الماضي الجميل وخيمت المأساة، وانتشر الحرمان خلال سنوات الحرب الإيرانية العراقية، ولم تنته معاناتنا بل إنها ازدادت بعد انتهاء الحرب أكثر من ذي قبل، وبدأ بلفّ سيجارة وقبل أن يشعلها؛ ارتدى عباءته وشدّ كوفيته على رأسه وودعنا ورحل، وكانت زيارته الأخيرة لنا…
نعم؛ مات نخيل المحمرة من النار والعطش، واستشهد حاج عويّد وسط نخيله شامخا، وهاجر العديد من أهالي تلك المدينة في الحرب، حتى أصبح لقريتنا نصيب من ذلك في الضيافة.
ونحن وعائلة المرحوم حاج عويد؛ جمعنا القدر بخيمة ومائدة واحدة في قرية ربيخة، مهما حاول أن يفرقنا الدهر والبشر…
وبعد مرور كلّ هذه السنين، لا تزال المأساة والنكبة تلاحقنا إلى يومنا هذا، وحتى بدأنا نبكي على الأمس ونشتاق إليه، بعد أن يقارن بتلك الحقب الزمنية، والحرّ تكفيه الإشارة…
والحمد لله على كل حال، ولكن ليتني بدل سرقة السجائر من علبة التبغ؛ كنت سألته عن التاريخ وعن سبب رحلة أولئك الطيبين من بيننا وعن ذلك القارب والنهر والنخيل التي ماتت شامخة…
وأما أنا اليوم، أخشى بأنّ ابني عندما يكبر ويكشف سرّ بكاؤنا على طور العلوانية، هل يستطيع أن يضحك بعدذلك اليوم ويعيش طفولته بكل براءة، كما كنتُ ضاحكا ومشاغبا أنا في طفولتي؟
نادرحميدي – أبو أمجد