كانت ملامح الحزن تعلو وجهي، كما لو أن ذلك المشهد كان نهاية العالم، اغرورقت عيناي فوليت وجهي شطر الدفاتر والكتب المكومة أمامي فشرعتُ أمسح الدموع السائلة على خديَّ. كنتُ أخجل أن يراني أحد في تلك الحالة، فمسحت دموعي وأنفي بكم قميصي، ثم رفعتُ رأسي فحدّقت في تلك الجعبة السحرية الصغيرة من جديد دون أن أرمش رمشة واحدة، لقد بقيت أنظر إليها هنيهةً حتى انطلقت مني ضحكة عالية، توقفت عن الضحك فجأة واضعة يدي على فمي ملتفتة حواليَّ بتوجس. كنت أخجل أن يراني أحد في حالاتي الوهاجة تلك.
واليوم بعد مضى عشرين سنة وجدتُ نفسي جامدة مثل العمود أمام تلك الجعبة السحرية، لا رموش ترمش، لا دموع تسيل ولاضحكة تنطلق، مغروسة مثل الرمح أمام التلفاز، بينما كنتُ منبهرة في المشاهدة وإذا بيد إبني تربت على كتفي، فاغر الفم، لم ينبس ببنت شفه، كان ينظر إلي بغرابة! فنظرت إليه دون أن أغير وقفتي والابتسامة امتدت على وجهي مشيرة بسبابتي إلى التلفاز:
جودي رفيقة طفولتي…جودي صديقتي المفضلة… أنظر إليها…جودي ذات الشعر الأحمر. هي ذي جووودي أبوت، كانت تتكلم بالفارسية قبل عشرين سنة والآن أصبحت تتكلم بطلاقة وبعربية فصحى.. هي ذي جودي برمتها أصبحت تتكلم بالعربية…أنظر! …كم هي جميلة حين تنطق كل كلمة على حدة وبدون لحن..أنظر…
أخرجت تلك العبارات من فمي بالحماس
فابتعدتُ عن إبني، تركته جنب التلفاز متجهة نحو المطبخ مخاطبة إياه بصوت عال: ألم تنتبه؟! أصبحت جودي تخاطبني بلغتي الأم. التفتُ إلى الوراء فوجدته ينظر إليَّ في حيرة بالغة وعلامات الدهشة مازالت معلقة على وجهه.
******
كنت أجلس القرفصاء أمام التلفاز بانتظار برنامجي المفضل، جودي أبوت وصاحب الظل الطويل… جودي كانت تأخذني إلى عالمها بتلك العفوية التي أحببتها فيها. كم ذرفت من الدموع حزنا لمآسيها وكم من ابتسامة ابتسمتها فرحا لسرورها. بعد عشرين سنة تعلق قلبي بها أكثر، ثمة شيء تغير فيها.
إنها لغة الأم، لغة القلوب!
(سماهر أسد)