تلك الليلة/ مريم لطيفي

تلك الليلة/ مريم لطيفي
  • عنوان القصة: تلك الليلة

                    
تلك الليلة، وجدت نفسي مطروحة على الأرض، ثقيلة الرأس، أشم رائحة الموزائيك المنعبثة من الأرض، كانت تداعب خشمي وبعض الروائح الغريبة التي كنت أعرفها، تربطني ذكريات غامضة وضبابية بها. كنت في محنة كبيرة، تحت وطأة المفاجئة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، شعرت بالارتباك والخجل حين رأيت بعضًا من الجيران والأهل حينما أتوا لبيتي مندهشين يهرولون في ساحة الدار.

حشرت معهم، لا أزال معضعضة الحواس. امتلأ الفضاء بصوت جلبتهم، لم أسمعهم بوضوح. صوت مبهم خشن يكلم رجلاً غريباً لم أره في حياتي. قطع حديثه مع الرجل، ارتمى حزينًا في زاوية الدار يحدّق في الجدران بصمت مريب وعلى ملامحه علامات استفهام و ذهول. قرأت في وجهه شيئًا غريبًا، كان يتآكل من الداخل ويتصاعد دخان سيجارته مع تصاعد العويل من غرفتي. اقتربت بتثاقل من أبي، حاولت أن أخبره بما يجري وأعتذر عن افزاعه في هذه الساعة المتاخرة من الليل. يتباعد عني في كل مرة أحاول فيها الإقتراب منه. تخاذلت من ردة فعله وخروجه عن المألوف. ذابت الكلمات في حلقي. أخفضت نظري مترددة، أدرت رأسي حيث وشوشة هامسة تبعدني من ذلك الموقف الحرج. شعرت بالبرد والتعب الشديد. وكنت أشتهي الاستلقاء، لبثت لحظة، زاغ بصري. وقفت. تلازمني وخزات وجع حاد بين أضلعي، كان الألم مرهقًا لدرجة الإغماء، لم يشبه آلامي التي كانت ترافقني في الحياة.  رحت متوجهة نحو الباب كي أخرج من دوامة الأوهام والخوف بتحريض من الأخرين. تناثل الخوف عليّ من كل صوب، لطالما كان يرافقني بل ولد معي وكبر معي وأصبح أكبر مني وأصبح يحوك شبكته كعنكبوت يمنعني من فعل أي شي ويدفعني كسجينة مكسورة الخاطر في حجره. ألتزم الصمت كالأخريات، عافيت نفسي من اهتماماتي البسيطة. لن أخرق الالتزامات، وأبقي نفسي في تلك الصورة المشوهة في بالي وبال الأخريات.
أفقد الرعب صوابي حتى أخذني بعيدًا حيث كنت خفيفة كسحابة ربيع يحملني الريح هنا وهناك، أرجع من المدرسة، غير مبالية بما يحدث من حولي، و لااكترث لشيء. رميت حقيبة الظهر الرمادية في الغرفة. خلف الباب أرنو إلى حديثهم كانوا أهلي يتهامسون، اقتربت أسارق النظر إليهم، يتلاعبون بقدري ومصيري العائم. التقطت أذناي قصة زواج وخواطيب وعرس. لي أنا،  وأنا كنت في أوانة شوقي للحياة أمتطي حصان آمالي وأصهو به الى اللانهاية، نشب فيّ حديثهم، لم أدركه حتى تلك الليلة البغيضة مع  زوجي وتوارى الفرح وتوارت البهجة من روحي. يتجدد هذا الطقس في كل مرة تولد فيها أنثى. انتهت أمي من الخبز وحملت الطبق على رأسها وحبيبات العرق تنزلق من جبينها وتتساقط على خدها، أخذ أبي يتسرع في الكلام ويشرح لها من تقدم.
نبرت أمي وهي تبلل ريقها الناشف من حرارة التنور وقالت في لهجة ملبدة بفرحة عارمة مع أنها لا تريد أن تقف بوجه أبي وتعلم أنني لازلت تلك البنت الصغيرة ازغرد للحياة.

أطلقت أمي فمها  بعد موافقتها، خيمت غيمة قاتمة عليّ. استدرت حول نفسي. انتابني شعور كراهية شديدة وخجل من نفسي حين لم أكن قادرة على الاعتراض واتخاذ قراري بنفسي. لقد غيروا مسار حياتي وأنهوا حياتي الطفولية البريئة وأودعوني في سجن موحش أبدي بين ذراعي رجل غريب مطلق على الأقل واحدة مثلي قبل أن يأتي دوري.كي ينام أمي و أبي ويخلصان مني ومن تفاهات مجتمعنا البغيض. وددت أن ينقطع شريط حياتي في تلك اللحظة، وددت أن ينهمر العالم بأكمله وينتهي كل شيء، حاولت أن أبوح ولو بكلمة لكني لم أستطع.
مضت على اختفائه عدة ليال لكن هذه المرة لم تكن كالسابق، لقد اختفى من قبل ورجع. شعرت بالقلق تجاهه، كنت أتجاهل هذا الشعور الخادع لأنني لا أريد أن أتصور أني  أحبه.
صوت طقطقة الباب هبطني من خيالي وأفزعني وأخافني وكأنني رأيت شبحاً ورأيت بوضوح تلك الكتلة التي تسمى الزوج كيف تترنح في عتبة الباب، اتجه نحوي وهو يتدلى نحو اليمين واليسار وعيناه حمراويتان وشاحبتا اللون، كنت خائفة مرعوبة. يسرع في خطواته نحوي مرتعش الجسم ، يتناوشه ضياع وخوف غريب. قبل أن يبدأ بالحديث تبادلنا نظرات فارقة، مشحونة بقلق وقساوة الحياة، داهمني إحساس مرعب كنت وحيدة وغريبة.
كان في درجة عالية من النشوة، صرخ في وجهي وأمرني أن أجلب النقود له. اجتاحني رعب مميت وأنا أدير ظهري وأسير نحو غرفتنا سألته عن أي نقود تتكلم، وكأني أضرمت النار فيه، ظل يتمتم بصوت عال وهو يقترب بخطواته العريضة نحوي. ساورتني هواجس غريبة وانا أحاول أن أقفل باب الغرفة، لكن هجم على الباب وكأنه محموم يدفع الباب بقوة ارتطمت بأرضية الغرفة، زحفت نحو الزاوية بحركة سريعة، أمسك بنفنوفي من الوراء. شعرت بيده القاسية تخنقني، أحاطني بين ذراعيه بقوة وثم دفعني نحو الحائط. كان لابد أن أدافع عن نفسي، كنت أبحث عن أي شيء لأجعله يتراجع قليلا. كانت أنفاسي تتقاطع وكنت الهث خوفا ورعبا،  لم أدر من اين ط أتيت بمجموعة مفاتيح ط، ألقيتها بكل قوتي نحوه وضربت رأسه. اتيحت لي الفرصة لأخرج من الغرفة وأنا أصرخ لطلب المساعدة، لكي أتخلص من هذا المجنون، لم يسمعني بشر. صرّت الدنيا أذنيها عليّ. لحقني وكمش شعري شعرت أن فروة رأسي خرجت من مكانها، زهقت روحي للحظات من شدة الوجع والألم، شهقت دمعة وبقيت أرفس برجليّ في الهواء كي أحرر نفسي ولكن كنت منهوكة القوى وكنت أحب أن أسترخي قليلا وأزيل كل ذلك الألم فالإنسان لا يتحمل كثيرا أن يتلاعب به الدهر. توسلت اليه الا يؤذيني، ازداد الشجار بيننا ثم ملكتني رغبة في الصراخ، دمعت عيناي وانزلقت الدمعة من عيني، أحسست بلكزة في بطني فجأة حدث شي غريب وأحسست أن شيئا لدغني بغتة، ضربة مرة ومرة أخرى ومرة أخرى. أتاني وجه أمي، ودهشة أبي استسلمت له ولقدري. مر شريط حياتي من أمام ناظري بسرعة وبدأت أتعب من آمالي وأشواقي إلى الحياة وطفولتي. اجتاحتني روائح ذكريات مختلفة، رائحة الطلع في أواخر الربيع ملأت رئتي رائحة براعم زهور البابونج في حقل في طرف آخر من المدينة، إلا أن شعرت بدفء سائل ينهمر على ملابسي أحاطني من كل جانب لم يكن الباب بعيدا جدا ولكن انهار جسدي على الأرض الصلبة وأغرقتني الدماء. انسحب بعدها مسرعا نحو الباب واختفى . هذا هو كل شيء يا أبي.   

مريم لطيفي

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات