تصورتُ حزيران تشرينا /سماهر أسد

تصورتُ حزيران تشرينا /سماهر أسد
  • تصورتُ حزيران تشرينا
    قصة قصيرة
    سماهر أسد
    يونيو 2021

_أماه لو حصلت على درجة ممتازة بماذا تكافئيني؟
رفعتُ رأسي من الكتاب:
_أباركُ لكَ.
_مجرد تبريك؟!
_وأدعو لكَ بالتوفيق في كُلّ مراحلِ حياتكَ.
_ الدعاء ديدنكِ سواء أنجح أو لم أنجح.
_طيب، ماذا تريد بالضبط؟
_ بالأول عديني بأنك تفعلينه.
_لن أعدك قبل أن أسمع.
_عديني. سأطلب منكِ شيئا بسيطا، لن أجعلكِ في موقف محرج.
_طيب. لكَ ما تريد.
_هل تقيمين لي حفلة ميلاد وتدعين أصدقائي إلى بيتنا؟
التفتُ نحوه:
_حفلة ميلاد ونحن في حزيران وأنت مواليد تشرين؟!
_لا بأس يا أمي، المهم أن نستمتع بأوقاتنا، اغمضي عينيك وتصوري حزيران تشرينا. الأمر سهل للغاية. تصوري بأننا في الخريف. مجرد تصوّر.

فأغمضتُ عيني عندئذٍ وتصورت فصل الخريف، وأتاني تشرين متبختراً قائلا:
_أنا تشرينُ، شهرُ دفء الحبِّ والهوى، رغم البردِ وزمهرير الهواء. أغصانُ أشجاري تتراقص رقصةَ الجنون، وأوراقُ أغصاني تتناثرُ شغفا وشجون. أنا تشرين موسم الريح والبرد والأمطار. تحلو معي كل الأشياء؛ الرحلة والقراءة والأمسيات والأنوار.
كنتُ مغمضة العينين متجسمة تفاصيل تشرين، فابتسمت له ابتسامة مرحبة في مخيلتي وابتسم لي. مرَّ على بالي برده ومطره وريحه. سمعت أصواتا، إنها زقزقة عصافير قبل هطول المطر، ورفرفة سنونوات في سماء تشرين المغيمة. رحت أدندن:
“أحب أن أضيع مثل طيور تشرين/ بين الحين والحين / أريد البحث عن وطنٍ جديدٍ/ غير مسكون
ورَبٌّ لا يطاردني وأرض لا تعاديني/ أريد أفر من ظلي وأهرب من عناويني/أريد أحب مثل طيور تشرين”. (١)

كلما كنت أتخيل تشرين، كانت تخطر ببالي نصوص رومنسية من روائع الأدب في وصف تشرين وجماله الآخاذ. نصوص في وصف تشرين لبنان، وتشرين دمشق وحدائق الياسمين، تشرين أرض الجولان، تشرين الحب وبساتين الريحان. وغابات اللوز والتين والرمان.
كنت غارقة في الخريف وجماله الأخاذ حيث لفت انتباهي صوت أنين، وألتفتُ نحوه، والتقت عيني بعينه فذبلت الابتسامة على شفتي، وقفتُ مذعورة فاغرة الفاه وقطبتُ حاجبي وأشرت إليه بسبابتي فخاطبته:
_ من أنت؟
نظر إليّ بعينين دامعتين واضعا يده على صدره، كأنّه يشعر بألم شديد في قلبه.
_أثخنوني بالجراح
قاله بصوت مُتِهدِّج وبنبرة حزينة. كاد قلبي يتفطّر ألماً، نظرتُ إليه وفي عيني سؤال :
_من أنت؟
كان يشعر بألم شديد وبالكاد يلتقط أنفاسه، رفع يده عن قلبه، فلاحظت بقعة دم على قميصه. صوبتُ نظري إليها هناک علی الجانب الأيسر من صدره حيث القلب، ينزف الدم وكأنه أصيب للتو، لقد أرعبني المشهد. توسعت عيناي دهشة ورفعت صوتي وخاطبته:
_من أنت؟من أين أتيت؟ ولِمَ أنت مجروح؟
رفع يده عاليا، كان ينقط الدم من أصابعه. أنّ أنين طويل :
_أنا تشرين الأهواز، وحيداً على المفترق مع نفسي، خشخشة أوراقي المتساقطة سمفونية حزينة، لست وسیماً كتشرين باقي الأقطار، لوني الخريفي هو اللون الأسود، لون الموت. إنني قادم من طاحونة الموت، من بين أعواد القصب. اتهموني بخطف الثمار من الأشجار ، وسرقة ألوان قوس قزح من البستان. عذبوني، أغرقوني بالجراح. جئت هنا لأبوح لك بأسرار الطرق وأهدي لك فواتير يأسي الخالدة، لعلك.. لعلك…
_أنت تشرين الأهواز؟
نظر إليَّ نظرة رجاء ، واضعاً سبابته على فمه:
_ششششش! نعم أنا تشرين الأهواز.
دنوت منه وهمستُ في أذنه وأنا ألتفت يمينا ويسارا.
_أين أطفالك؟ ماذا جرى لهم ؟
فتفجرت ينابيعُ عينيه دموعاً وسالت على وجنتيه ثم مسح دموعه رافعاً رأسَه إلى السماء قائلا:
أطفالي تساقطوا كتساقط أوراق أشجاري، ولكنهم تساقطوا فحسب، لم يموتوا قط، إنهم بذور، سيخضروا يوماً ما، ألم تري بأنَّ هُيامَ الربيع هو وليدُ غُصَّةِ الخريف. أطفال تشرين لم يموتوا.
بانت على وجهي علامات البكاء، فحاولت إخفائها. خيّم علينا صمت حزين. أحببت أن أوجه إليه أسئلة كثيرة ، تلك الأسئلة التي عشعشت في مخيلتي ولم أجد أحدا يجيب عنها. ازدحم طيار هادر من الأسئلة خلف بوابة فمي وما إن فتحتُه لأسأله وإذا بيد ربتت على كتفي.
_ يا أمي! ماذا قلتِ؟ هل توافقين على إقامة حفلة ميلادي…أمي؟ أمي؟
أخذ يهزُ كتفي بلطف:
_أمممي
تطلعتُ فيه ولكنني لم أنبس ببنت شفة.
ناداني بأعلى صوته.
_مالكِ يا ماما. ما الخطب؟
_ لا شيء، لا شيء.
التفتُ إلى اليمين ثم إلى اليسار فسألته.
_يا بني أين ذهب؟
_من هو؟ هل أنتِ بخير؟
_أنا بخير، لا تقلق.
_هل أنت موافقة؟
_ موافقة؟ بماذا؟
_حفلة ميلاد
_آآآه. نسيت، لا عليك، سوف أتولى الأمر.
اتسعت عيناه فرحا وقبّل يدي شاكرا ثم ابتعد عني متجها نحو الشارع وهو يكرر:
_ أنت أفضل أم يا أمي العزيزة. أنت أفضل أم.
ألقيت نظرة حواليّ فأغمضت عينيّ مجددا، بحثا عن تشرين الأهواز فوجدته هنالك، واقفا في ركن من أركان مخيلتي يدندن بصوت خفيض:
“لقد آنستُ دفئاً/ يلمسني دفءٌ /يطلُّ على أحرفي وشهوتي نقاءُ الربيع/ وغضبُ نيسان/ وترتيلةُ الشمس تتدحرجُ على أسوارِ جسمي/ ربما شذى إله دخل خلايا العظام / إنّي أخضّرُ عشباً/ تنبتُ الزهور من مقلتي/ ويبتسم لي ذلك الصباح الجنوني الكسول. (٢)
لوّح لي بيده وابتسم لي ابتسامة منتصرة ثم اختفى،
أغمضت عيني وفتحتهما مرارا وتكرارا، بحثا عنه فلم أجد له أثرا.
____________________________
١_ نزار قباني
٢_سعيد بوسامر، عُد يا مطر

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات