بين أزقة الذاكرة
بيت و حكايات و حديقة
بقلم : عماد ناجي
صوت تهويدة أمي
(دللول يبني دللول)
وترانيم علوانية أبي
( أوف أوف یاگلبي ) في حي العامري ،كلها تراث أصيل يأبى النسيان ،و الورود التي زرعوها في حديقة بيتنا الجميل في حي الشعب و حي الزهور مازالت تورد و يفوح منها عطر أمي و أبي.
و أنا مازلت ملهفا” لها بكل شغف و حنين، أشتم بكامل إشتياقي في كل صباح ، من عبق رحيق أزهارها و عبيرها المنتشر في فضاء بيتنا المسحوب برائحة الياسمين و أروي ذاكرتي بندى أوراقها و أحييها بذاكرة أحجار بيتنا القديم و طابوقه الأصفر الفخاري بجمال المزهريات الموزعة في كل ركن و زاوية من بيتنا الجميل ،الممتزجة بالوان ورود أمي و أبي.
لا أنسى ابدا” نخلتنا البرحية و رائحة الطلع في موسمه و شجرة السدر الخضراء الشامخة الأبية و صوت البلابل فوق أغصانها الجميلة ،تغارید تنادي للحب و الحیاة في وسط بيئتنا المزدحمة في المدينة.
ترانيم الصباح بعطر الشوق
و الحنان و أغنيات فيروز تسترجع لي ذاكرة الأيام و تغمرني بثورة حروفها الأبجدية، أستمع لأغنية
“وطني” :
وطني يا جبل الغيم الأزرق
وطني يا قمر الندى و الزنبق
يا بيوت البيحبونا يا تراب اللي سبقونا
يا زغير و وسع الدنيي يا وطني
وطني يا ذهب الزمان الضايع
وطني من برق القصايد طالع
…
شجر أراضيك سواعد أهلي شجروه
و حجار حفافيك وجوه جدودي العمروه
و عاشوا فيك من مية سنة من ألف سنة من أول الدنيا
… يا وطني.
هذه الأغنية تدفعني لأشعر بدفيء غزير نحو بيتنا الكبير و هو الوطن و موطني الحبيب الأهواز ،الذي منحني من حبه و دفيء وجوده إستمرارية الحياة.
سأبجله و أقدره عبر ذكر كل المحطات ،من بيت الطفولة الى بيت الشباب ، حتى نهاية الحياة حين أرقد فيه و تغطيني الأرض بتراب وطني.
يبقى الوطن هو المحطة الأخيرة لإحساسنا بهذا الشعور الجميل و الراقي ،و تبقى الأرض هي مضجعنا و مأمننا للولادة الجديدة هناك حيث تولد كل الحكايات فيها ، تحيي بوعي الشعوب و تزدهر بماء الحنان و حب الوطن .
أدخل لغرفة المكتبة و أفتح أرشيفي المتواضع أمسك بيدي نسخة من أسبوعية الحديث الأهوازية التي كانت تنشر مابين2004 و 2006 و التي جمد نشاطها في مابعد مثل أخواتها،جريدةصوت الشعب و همسايه ها .
أقرأ مقالاتي التي كتبتها آنذاك في تلك الظروف الإستثنائية ،أرتشف كوبا” من القهوة الممزوجة بالهيل و أقراء قصائد شعر فصحى من نزار قباني و محمود درويش و الدكتور عباس الطائي و قصائد شعبية من الشاعر الأهوازي أمير الأبوذية ملة فاضل السكراني و ابوأمجدالحيدري شعراء آخرون.
ثم أتصفح الجريدة و أقرأ بعض المقالات الإجتماعية و الثقافية لكتابنا الأهوازيين و بعض المقالات الفكرية للمفكر العربي محمد عابد الجابري و الدكتور علي الوردي لأحيي ذاكرتي و أروي شغفي .
تذكرني هذه اللحظات بتلك الأيام حيث كنا نكتب و ننشر في الجرايد الورقية التي كانت هي المتنفس الوحيد قبل بزوغ المواقع و المدونات الأهوازية و منصات التواصل الإجتماعي لنشر أفكارنا و دراساتنا و نتاجاتنا الفكرية و الأدبية.
تلك الجرايد الأهوازية التي أجيز لها النشر و التوزيع باللغتين العربية و الفارسية في فترة الإصلاحات السياسية في إيران في عهد رئاسة خاتمي .
كانت الأقلام الأهوازية متحمسة و حريصة على تنمية المجتمع و نشر الأدب و الثقافة بين أوساط شعبنا العربي ،على أساس أن الثقافة هي الساتر الأول والتثقيف هو السلاح الوحيد مقابل الجهل و التخلف و القبلية، و هو الرادع القوي للعنصرية المغيتة و التهميش و التمييز في المجتمع ، والعمل عليه مما يؤدي لخروجنا من دوامة العزلة و يتيح لنا الفرصة للتعريف بثقافتنا و هويتنا و أدبنا العربي.
أتذكر أول مقال نشر لي في جريدة الحديث كان عبارة عن رد على مقال مطول لكاتب عنصري نشرله آنذاك في مجلة ايرانمهر و كان يزعم أن الأهوازيين هم عرب اللسان و بسبب الإمتداد الجغرافي و الجوار العربي أتقنوا اللغة العربية ، و كان مقالي في ذلك الوقت بمثابة الرادع القوي لهذا الفكر المشئوم و الشوفيني تحت عنوان ” الفكرة العنصرية لطعن الهوية العربية” .
أخرج من البيت متجها” نحو مركز المدينة قرب الشارع المركزي (نادري) فی منطقة الناصرية ،أجلس وحدي مقابل متجر رفاه المتواجد خلف أحد قصور شيخ خزعل و الذي أستبدل في مابعد الى حسينية ، متجر رفاه التابع لشريكة ربحية متعددة الفروع ذلك المحل الكبير الذي بنى بعد الثورة في التسعينيات وكان و مازال يمثل الشرخ الطبقي الوسيع بين عوائلنا الأهوازية الفقيرة و الأسرالمتمولة الذين أكثرهم من المستوفدين .
أنظر لشاطىء كارون و أستمع لأغنية أهوازية الألحان من كلمات الشاعر الأهوازي عبدالعظيم السوداني بصوت الفنان على الكاروني:
يسجد للنخلة التأريخ
و النا العزة ولو نزعل
مايبقى الكون أبنفخة أنهزة
..
الحق شيمتنه الگاع ،النخوة أنظل وفاية
وبسم الحب أتعرج فوگ الفوگ الراية
إنحب اليهوانة و مانخونة
والمظلوم انكون ابعونة
شيب و شباب أحنا أتحدينا
والحد آخر و الكل طاغية أدروس انطينة.
بصوته الشجي يعزف على أوتار غيثارة قلبي الحزين ليخرجه من دوامة الإكتئاب بعيدا” عن ضجيج المدينة و بريق الأسواق ، أتمشى على حافة النهر لأهديء أعصابي ، و أسترخي قليلا” .
يهب نسيم كارون من الضفة الأخرى للشاطيء ، ينعشني و يحمل في طياته الحنين الى الماضي و يذكرني بذكرياتي الجميلة.
بعد أن أخذت قسطا” من الراحة ذهبت مع عمال البلدية لأساعدهم و أغرس نخلة في المنتزة تخليداً لكتابنا و أدبائنا و رموزنا الثقافية لاسيما الراحلين منهم (الدكتور جاسم المشعشعي و الأستاذ قاسم الكعبي و الدكتور علي الطائي و…) و لكل البصمات و الذكريات الجميلة التي تركوها لنا ،لتكون ذكرى خالدة للجميع.