بين أزقة الذاكرة و شوارع الأهواز(٢)/ عماد ناجي

بين أزقة الذاكرة و شوارع الأهواز(٢)/ عماد ناجي

القسم الثاني:
رسائل السلام من فوق جسر الهلالي

الجسر الهلالي أحد أيقونات الأهواز الشهيرة، وهو أحد أهم رموز الأهواز السياحية يمتد طوله ما يقارب 501 متر يربط الضفة الغربية لنهر كارون بالضفة الشرقية، حيث يصل مركز المدينة بالطرف الآخر و ترسي الزوارق بجانبه و تحلق النوارس فوق هلالي الجسر الفولاذي، الذي تم تدشينه في عام 1936.م .

 لا يمكن لزائر الأهواز أن يفوته زيارة هذه التحفة المعمارية على نهر كارون.

في أحد الأيام كان الطقس ممطرا” عندما قررنا زيارة هذا الجسر الجميل لنحيي ذكرياتنا في نهايات الشتاء حيث يعد ربيعا” في الأهواز و الجو دافيء ومعتدل،وصلنا إلى هناك ولم نكن نتوقع أن تكون المنطقة مزدحمة بالناس في ذلك الطقس الربيعي الممطر.

أستوقفني الجسر الهلالي يحمل ذكريات كثيرة ويختزل تاريخ حافل من الأحداث التي مرت طيلة العقود المنصرمة على هذه المدينة الجميلة رغم انها مشحونة بأحداث و هموم وأزمات و سيول و حروب ،و حرمان و فقر وتيه وهجرة ،لكن لاتفارقها الإبتسامة كشمسها الساطعة منذ الأزل و نخيلها السامقة الصامدة منذ فجر التاريخ.

كل من زار المكان إنبهر بجماله و عراقته و جاذبيته.
هكذا رأتها عيوني و عدسة كامرتي.

رأيته متحودب يحمل على ظهره ذكريات من الشباب الذين يتحدون اقواسه و يترجلون بكل شجاعة و فخامة و بروح رياضية و طاقة فريدة من نوعها ليصلوا أعلى قمته ،يرفعون إشارات النصر للناظرين و يقفزون من فوقه الى قاع النهر للإشادة بالحيوية و الحرية و التحدي محاولين محاكاة النوارس.

رأينا الناس مبتهجين و مفعمين بالإبتسامة و السرور ،يبحثون عن الفرح ليخلعوا ثوب الألم و الحزن و الكئابة من وجوههم التعسة.
منهم من كان يحاول التقاط الصور و منهم من كان ينظر لجمال نهركارون و عظمةمعماري الجسر الفولاذي و أنا كانت نظراتي الحادقة المتأملة تتابع النوارس المبلله التي تبحث عن زاوية و ملجأ يأويها تحت ظل قامة الجسر.

كانت تتسارع النوارس و تنادي بعضها البعض بأصوات صارخة و تنبه آخر نورس يلتحق بسرب النوارس اللاجئة ،رغم أن الطيور كانت نوارس ،إلا أنها سحبتني لأحلق معها فوق شاطيء أفكاري ،توقفت قبالتهم في رحلة إلى خارج البلاد و على حدودالبحرالمتوسط مع جمع غفير من اللاجئين،إستحضرت لحظة ،صورة اللاجئين من الحروب و الإستبداد حيث أنهم هاجروا قسريا” لأقصى الحدود و أبعد الدول و غامروا بحياتهم و أسرهم عند إتخاذهم القرار الجنوني، بعبور البحر بقوارب مطاطية صغيرة عبر التهريب ،منهم من نجى و وصل الى الساحل و منهم من غرق في وسط البحر و وافته المنية.

شاء القدر أن يغادر الأرض و ترابها و يغرق في قاع البحر ليترك خلفه كل المفاهيم و المغتنيات التي إكتسبها طوال عمره و ناضل من أجلها و غامر بحياته دون تحققها ، الوطن ،الحرية والسلام، و ترك الذكريات و المأساة و المعاناة.

 

اللاجئ هو إنسان مضطر يستغيث و يستنجد بالآخرين ليستضيفونه بالأمن و الأمان و يؤمنوا له ممارسة حياته و إنسانيته بالحرية و السلام.

فنوارس البحر تحل عندنا ضيوفا” كل عام ،محملة بمتاعب الطريق حيث أنها تشق مسافة ماتقارب خمسة الآف كيلومتر من أقصى البحار ،يقال إنها تأتي من سواحل البحر المتوسط تلك المنطقة المعجة بالنوارس حيث انها تعشعش في سواحل تركية و سورية ولبنان و فلسطين تلك الأرض الجميلة المغصوبة ،من عروس البحر يافا إلى بحيرة طبرية و ثم سواحل بيروت الحزينة الى طرطوس و اللاذقية المضطربة في سورية ،تحمل المنادات و النغمات تلك الرسائل المعبئة تحت أجنحة النوارس محملة بذكريات الحروب والصراعات و رسائل أطفال مشردون ،من داخل المخيمات ،يطالبون العالم بأسره بوقف الحروب و شروق شمس الحرية وإحلال السلام و ينادوننا لنصرة الإنسان و الإنسانية في كل مكان.

تلك الرسائل التي أرسلوها في قصيدة “فكر بغيرك” لمحمود درويش و كلمات “أشد من الماء حزناَ ” لسميح قاسم، لاطم الريح بجناحين متجهة نحو العالم و نغمات مارسيل خليفة و فيروز الصباحية وأغنية سأقاوم لجوليا بطرس و رسائل أخرى كتبها نزار قباني و لم ينساها في أشعاره ، تحكي عن القدس و عن بيروت و دمشق و بغداد و عن الجرح النازف و عن غزل الرعود مع الرعود.

مرحبين بهم في الأهواز كموطنهم الثاني ،يأوون الى ضفاف النهر تحت مظلة جسرنا المدود الى الجهة الأخرى من ضفاف نهركارون .

كانت تحلق النوارس بكل هدوء و شموخ رغم أحزانها و متاعبها فوق هلالي الجسر و ترصد بعيونها المحدقة أسماك النهر لتلتقط رزقها بمنقارها السناري.

النوارس تزين الجسر والنهر بجمال وجودها و حلاوة أصواتها و نغماتها و لغتها المعبرة عن هجرة معاكسة من شمال الوطن العربي الى جنوبه حيث تأتي الى دفيء الأرض في الأهواز و تعيش حياتها في موطنها الشتوي في بيتها العربي المضياف لتخلد ذكرياتها الجميلة في أذهاننا.

أسترجع ذكريات أيام الدراسة في الثانوية في شارع 24 سنة 1990.م حيث كانت بداية حلول فصل الربيع هي من أجمل الأوقات و الفصول بالنسبة لنا كتلاميذ ،نكمل ثلث الكتب الدراسية و تنتهي معظم دراستنا وتبتديء عطلة الربيع.
كنا نجلب معنا فتات الخبز من بقايا الشطيرة (السندوتش) التي نتناولها في وجبة الصباح في المدرسة ،كنا نرميها على مياه النهر لتلتقطها النوارس في السماء و تأكل منها ،نتعاطف مع النوارس و نتبادل رسائلنا و نتقاسم أرزاقنا ،هذا المنظر الرومانسي و الجو الهاديء كان يجمعنا مع نوارس كارون لنرسل رسائل السلام من فوق جسر الهلالي و نهدي لها الطمأنينة و السكينة بكل عطف و حنان لترقد على ذراع شواطينا و تبتهج و تحلق بكل شغف فوق سماء الأهواز.
بهذه الطريقة كنا نرحب بالنوارس ،نلاعبها و نحافظ على بيئتنا و جمالها الفائق كي تحلق كل صباح فوق الجسر و ترفرف بجناحيها الفرح و هي شامخة بين الغيوم المنتشرة ،صوب الشمس في أرجاء السماء ، نحو هلالي الجسر الفضيين بكل شموخ و جمال وأناقة و ثم تعود الى قاع النهر لترتوي من مياهه العذبة و تحصد رزقها و تتغذى من أسماك نهر كارون.

هذا النهر المعطاء المتدفق من شمال الأهواز الى جنوبه في المحمرة و عبادان كشريان الحياة يشق وسط المدينة جاهدا” بنفسة إحياء الأرض و إرتواء كل حقول القمح و الأرز و بساتين النخيل.

كان النهر ممتلئا” بالماء و الأسماك و كان من يرغب بصيد السمك لا يحتاج سوى أن يجلب معه سنارة ليصطاد أنواع من السمك كالبياح و البني و الشانق ،كان تيار الماء جارفا” للزوارق آنذاك ، يشطر بكل غزارة و قوة و يسقي في طريقه مدننا و قرانا و الآن بعد ثلاثة عقود و أنا أقف على الجسر الهلالي و أنظر الى نهر كارون أراه بات هزيلا” و نحيفا” ،سرقوا مياهه من المصب و حجزوه خلف غضبان السدود ،بات الفلاح فقيرا” و الباعة تتجول في الشوارع ،و البيوت و الجدران متهالكة و الأشجار و العصافير مكتأبة و أطفال العمل في الشوارع يبحثون في حاويات القمامة على قطع البلاستيك و علب الببسي المتروكة أمام محلات بيع الأكلات السريعة (فست فود) ليجلبوا لهم لقمة عيش تؤمن حياتهم المزرية .

لكن رغم كل المعاناة و المأسي و زنازين القهر في غياهب الظلام و الغبار المخيم على المدينة ،مازال النهر جاريا” و متدفقا رغم أنه يحمل على سطحه نزيف الجروح و رائحة الدم و آلام القرى و الأرياف و المدن لكن بكل سخاء و كرم يستقبل النوارس و يهديها أجمل التحيات و الترحيب .
أنظر الى النوارس حين تحلق في سمائنا الزرقاء وأستحضر أبيات من قصيدة “مثل النوارس” للشاعر الكبير فاروق جويدة:
مثل النوارس ..
لا أرى شيئاََ أمامي ..
غير هذا الأفق ..
لاأدري مداه .. ولا أريد ..

مثل النوارس ..
لا أحب العيش في سفح الجبال ..
ولا أحب العشق في صدر الظلام ..
ولا أحب الموت في صمت الجليد ..
مثل النوارس ..
أقطف اللحظات من فم الزمان ..
لتحتويني فرحةٌ عذراء ..
في يومٍ سعيد ..

مثل النوارس ..
تهدأ الأشواق في قلبي قليلاََ ..
ثم يوقظها صراخ الضوء ..
والصبح الوليد ..

مثل النوارس ..
لا أحلّق في الظلام ..
ولا أحب قوافل الترحال ..
في الليل الطريد ..

مثل النوارس ..
لا أخاف الموج ..
حين يثور في وجهي ويشطرني ..
ويبدو في سواد الليل كالقدر العتيد ..

يمضي الزمان ويأتي جيل بعد جيل و نحن على موعد جديد لنلتقي مع نوارس كارون كل عام و نكرر ذلك المشهد الجميل لعطاء الناس لنحيي ذاكرتنا الجمعية .
أنا و ابني على الجسر نتمشى أسترجع ذكرياتي و كعادتي القديمة نمضي الوقت و نطيل النهار و نرمي بفتات الخبز لتلتقطها النوارس في السماء .

يغمس النورس فتات الخبز بالنهر و يأكل بلهف و شوق من يدنا ،ثم يعود و ينطلق نحو الجسر و يحلق في سماء الأهواز ليفتح جناحيه البيضاء بجمال رقصته الصوفية ليشكرنا و يشكرالله على ما أنعمه عليه.

يحفظ رسائل حبنا و أشواقنا للحياة في أعماق ذاكرته ليحملها معه كرسائل ود و سلام ،من شعب عربي حر مقدام ،يتوق للحرية و الكرامة و السلام ،الى العالم و الإنسانية كافة ،عندما يقرر العودة لموطنه الأول في آخر موعد بين هطول الأمطار في شهر نيسان و حلول الصيف في منتصف الربيع آخر حزيران.

هكذا كانت جولتي بين أزقة الذاكرة و شوارع الأهواز و للحكاية بقية.

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات