بائع الكتب/أماني الكعبي

بائع الكتب/أماني الكعبي

يتكئ على حائط المصرف شاحِب اللون، يرتدي قميصه الذي كان ينبغي أن يكون لونه أبيضاً، لكنّ الدهرَ والفقر لوّناه بلون باهتٍ يعبّر عن المأساة التي يعيشها هذا الرجل.

تختفي عقدة حاجبيه وعيناه الكئيبتان خلف عدستي نظاراته التي لا يذكر متى آخر مرة نظفهما، غريبُ الشكل، مضحكُ التصرفات، كأنه هاربٌ من أحد أفلام الرسوم المتحركة،
لم أرَهُ يوماً مهتماً بمنظره الخارجي أو لربما لم يعد يفكر بهذا الأمر بسبب جبال من الهموم قد تراكمت على صدره.

تراه يجالس أصدقاءً ليس لهم مثيل ، رفاق من ورق مرتب بشكل منتظم تحوي حروفاً وكلماتٍ وجملاً ، نعم أصدقاؤه هم كتُبُه التي لا أعرف من أين جاء بهم، البعض منهم قديم جداً لدرجة أنّ الأوراق تتطاير منها اذا قلّبتَ صفحاتها.
عجولٌ، عصبيٌّ، وصدقوني يتكلم بسرعة البرق وأكثر الأحيان لا أفهم ما يقول،  لكنّ ما يعجبني فيه أنه يبدي رأيه بتلك الكتب التي يبيعها بكل مصداقية وكأنه فهرس في آخر الكتاب أو لربما ذلك الحاسوب الذي أُدخلت فيه جميعُ بيانات الكتب.
سألته ذات يوماَ: يا عم. أصحيحٌ أن كلَّ من يقرأ (لصادق هدايت ) يموت منتحراً؟!
وبعد صمت دام للحظات ونظرات تأمليةٍ غاضبة
إنفجرت من فمه تلك الجمل التي لم أفهم نصفها ولم أتذكر إلا القليل مما فهمته
حسناً.
ليتني لم أسأله،
لكن علقت في ذهني بعض كلماته عندما قال: حين تقرأين كتاباً له إفهمي ما يقصده ولا تصدقي ما يقال عنه قبل أن تأخذي نظرة وفكرة ربما تكون ظالمة بحقه.
ما يدهشني بهذا الرجل أنه يحفظ الكتب التي يبيعها عن ظهر قلب.
فعندما أمسكُ كتاباً وأسأله عن محتواه أو سعره فإنه يقف أمامي وكأنه الكاتب ويبدأ يشرح لي ما بداخله ٫ الصفحة الأولى. الثانية. الثالثة. دون أن يمسكه أو أن يلقي نظرة عليه.
ولولا تظاهري بالتساؤل عن أمور أُخرى تسكته لقرأ الكتاب كله دون تعب أو ملل.
ربما لأنه تجاوز مرحلة القارئ أو الهاوي، فأنا أرى أن القارئ اذا وصل الى هذه المرحلة فإنه يُسمى عاشقاً ،
عندما أمرّ من هذا الشارع الذي يبيع فيه و لا أجده، أشعر بحنين لكتبه و حزن غريب يجتاح كياني ولا أعلم لِمَ أقلق عليه، ربما أخاف أن أفقده فلا أعود أتصفح تلك الكتب.
ولكن لا أخفيكم أنّه سرعان ما تخطفني المحلات وملابسها و ألوانها و أتناسى ما تحتاجه روح أماني وما يبحث عنه عقل أماني “الكتب”.
أحب دائماً أن أراه عندما ألتفت إلى الجهة اليسرى من (شارع أميري) .وأرى تلك الكتب تفوح منها هذه الرائحة التي لا يجهلها أحد منا فأشعر بالطمأنينة ، وكيف لا أشعر بها وأنا أرى أن كتبي بخير.. أقصد كتب ذلك البائع
مرت فترة طويلة لم أرَه في نفس المكان الذي أعتدت أن أراه فيه ودائماً كنت كعادتي السيئه أقلق عليه،
اعتدت دائما أن أقلق على كل شيء أحبه، وكتب هذا الرجل أصبحت في قائمة إهتماماتي.
يوماً كنت ذاهبةً لأميري (شارع في عبادان) في غرض ما، وأنا أسأل نفسى أأصابه مكروه؟!!
إذاً.؟؟؟
والكتب؟!!!
كيف سأحصل عليها؟؟
كنت أفكر وفي أفكاري السوداء الكثير من الأنانية خشية ألّا أحظى بالكتب التي أريدها مرة أخرى.
وفجأة ظهر أمام عيني كعادته شاحب الوجه، متوتر، عجول، غاضب، وملامحه تدل على أنه لا شيء في الوجود يعجبه سوى كتبه ومؤلفوها.
إشتريت منه بعض الكتب ومنها كتاب لصادق هدايت بعدما أراح قلبي لها بكلامه.
كلفني سعرها قليلاً ولكني طلبت منه أن يخفض لي من السعر قليلاً فنظر إليَّ وقال: لو مددت يدي لتساعدوني لقلتم بكبرياء: شحاذ “إنقلع” إشتغل وإعمل كباقي الرجال، وها أنا أعمل ولكن بربك عملٌ كهذا؟
وفي مثل هذا الجو؟
وتطلبين مني أن أخفض لك السعر؟
لم أجد جواباً لسؤاله ففضلت السكوت
وطار بي تفكيري بعيـــــــــــــــــداً بعيـــــــــــــداً لقولٍ قاله الإمام علي بن أبي طالب قبل ألف وأربعمئة عام عندما قال: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”.
لم أستطع أن أول له سوى: فهمتك يا عماه..
وودعــــــتــــــــــــه

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات