خرج الرجل العجوز من داره عندما نشر الصباح ضياءه مستعيناً بعكّازته يريد شراء الخبز لأوّل مرّة من جارت لهم سكنت قبل أيّامٍ بالقرب منهم تخبز في بيتها لتبيعه على الجيران ككثير من النساء غايتهنّ الوقوف بوجه الجوع الخبيث .
فلمّا وصل وقف مسلّماً على المرأة و من سبقوه فردّت السلام عليه و هيّ تتصبّب عرقاً و قد أنهك قواها التعب فاستمرّت بسرد قصّتها الحزينة إذ تقول ؛ أنّ الجلطة المشؤومة رمت زوجي المسكين بالشلل فجعلته ملازماً سريره منذ سنوات فبقي ولدي الوحيد و هو في عنفوان شبابه يجاهد من أجل أن يجلب لنا لقمة عيشٍ نقتات بها ، حتّى حان عصر ذلك اليوم الّذي لم يجد فيه ما يستطيع أن يشتري به قوتاً لنا ككثيرٍ من الأيّام و لكنّ الغضب جعله يهتف و هو ماشٍ في الطرقات متّجهاً نحو البيت :
لعن الله الطغاة لعن الله الطغاة
فعند منتصف الليل و قد احتلّ الصراخ بطوننا إذ نسمع مجموعات الدَرَك الملثّمة في بيتنا معربدة تصيح :
أين المفسد في الأرض ..؟
أين الإرهابيّ اللئيم ..؟
أين عدوّ الشعب ..؟
فدخلوا علينا كالوحوش و كبّلوا معيلنا و أملنا الوحيد بالسلاسل والقيود من كتفيه إلى قدميه و أخذوه مسرعين إلى اللّامعلوم .
فما مضى أُسبوعٍ إلّا و أخبرونا أنّ إبنكم قد حكمت المحكمة عليه بالإعدام و قد تمّ شنقه ليلاً في السجن و دُفن في مقبرة الملعونين البعيدة جدّاً .. و إيّاكم والذهاب إلى هناك .
فسالت دموعها بغزارةٍ في التنّور عند إزالة غطاءه لتضرب العجينة فيه .
فاختنق الرجل العجوز بعبرته و هيّج عواطف من بقربه بآهاتٍ حنينة أطلقها من صميم القلب ، فخرج عائداً لداره والدنيا قد اسودّت في عينيه و هو يقول ؛
الموت حصّتنا الوحيدة من الوطن
الموت حصّتنا الوحيدة من الوطن .