دخلت السوق وإذا بي أرى الناس محيطة بشيء لم أره من بعيد، فلمّا دنوت من الجمع ونظرت وإذا برجل عليه ثياب رثّة وأحوال مزرية للغاية وكأنّي بلسان حاله وهو ينظر للناس المجتمعة حوله يقول: ما الّذي جعلكم ترموني بهذه النظرات المسمومة؟ أهكذا ينظر للمجنون؟ لست أدري!
فابتعدت عن الجمع وانتظرت حتّى تفرّقت الناس عنه فدنوت إليه وسلّمت عليه وردّ التحيّة واستمرّ بهذيانه، فقلت له: كأنّي بك قد اشمأزّت نفسك من الناس حين تجمّعوا حولك ينظرون إليك؟
أدار برأسه نحوي واغرورقت عيناه.
فقلت له: هل أنت بحاجة شيء؟
أشار برأسه نحو الأعلى أي لا.
فقلت: دعني أذهب لأجلب لك طعاما.
فنظر إليّ نظرة راض.
فقمت مسرعا توجّهت نحو بيتنا وجلبت ما قسمه الله ورجعت عنده، ووضعت الطعام أمامه، وقلت: أنا اتركك لوحدك لتأكل طعامك، وسأعود بعد قليل.
فابتعدت عنه ووقفت حيث لا يراني، حتّى تأكدتّ من كفّه عن الطعام فرجعت إليه.
فصار ينظر إليّ وكأنّه يشكرني، فقلت له: أراك تحمل في قلبك قصّة لا تريد التكلّم عنها، هل من الممكن أن تقول لي أين أسرتك؟
فكسر حاجز الصمت وتكلّم بصوت مرتعش: خرجت من بين أهلي وناسي منذ أن حرموني من… وصمت.
فقلت: من ماذا؟
فبكى وقال: ممّن أحببتها وأحبّتني.
فقلت: كيف حرموك وهيّ أيضا تحبّك؟، وأين هيّ الآن!؟
قال: حرموني منها لأنّهم قد أحسّوا بخيط الحبّ الممتدّ بيني وبينها أيّام دراستنا في الجامعة معا، وزوّجوها من إبن عمّها الأصغر عمرا والأقلّ علما رغما عن إرادتها.
قلت له: أأنت خرّيج جامعة؟
قال: نعم، في فرع الفيزياء.
فاندهشت كثيرا وقلت: تقصد أنّ أهلها لم يسمحوا لك لأنّهم أحسّوا بهمزة الحبّ الّتي بينكما؟
قال: بلى، لأنّ عقولهم النكرة ترى الحبّ خزيا وعارا، ولكن ظلم البنت وتزويجها ممّن لا تحب عملا حسنا!
فقلت: وهل تركك لأهلك وناسك يجدي بنفع لك؟
قال بصوت مرتفع: رجوعي إلى هناك محال محال، وكيف الرجوع وأبي وأمّي قد ماتا حزنا على حالي بعد أن أصبت بالجنون إثر غصب الحبيبة على الزواج، وصار يبكي بكاء شديدا وتركني بسرعة وهو يصيح: لعنهم الله لعنهم الله لعنهم الله.
فعرفت حينها أنّ العادات والتقاليد البائدة بإمكانها أن تفني شعبا كاملا وليس فقط تجعل من العاشق مجنونا يجوب الشوارع والأحياء دون هدف سوى الهروب من الماضي وذكرياته.