الكتاب هو الذي خلق التمدد الفكري طيلة التاريخ الإنساني، وبنى العقول الجمعية المتنوعة التي هيمنت وأدارت توجهات حضارات مختلفة وصبغت الوجود والعقل بالوعي وباللاوعي، وبالسلام وبالكراهية والبغضاء.
من خلال الكتاب عرفنا عقول وسلوكيات أسلافنا السحرية والأسطورية والدينية والفلسفية والمعرفية العلمية والفنية والحياتية، والتي مازالت تتواصل معنا بطاقاتها تحت تأثير قوة الكتاب وقداساته وإضاءاته.
ساهم الكتاب من خلال قدرته التمددية في الزمن وفي الجغرافيا على خلق تناصات متنوعة ومتباينة بين الحضارات والمجتمعات؛ وهذا ما يفسر حدود ونقاط التماس والتقاطع في الأديان وفي الأساطير وفي التراث وفي سلوكيات الحياة، والمعرفة، ويشرح طرق وممرات وأساليب الأخذ والعطاء المعرفي والفكري والفني وانتشارها في التجارب البشرية.
مكّننا الكتاب من النظر للمستقبل والتوجه له عبر ما يخزنه وما يراكمه من علوم ومعارف وفنون وتجارب يبنى عليها، كما أتاح لنا القدرة على الاستدارة للزمن الماضي لرؤية بعض صوره ومظاهره، ومعرفة بنى التفكير فيه وصراعاتها، وما أنتجته، وما وصل إلينا لنقده وللاستفادة منه.
لم يكن الكتاب خارج صراعات وتوجهات ونزعات العقول المنتجه له، ولم يكن متحرراً من الرغبات والطموحات والأهداف التي يرسمها ويسعى إليها المؤلفون والقوى المتواجهة أو المختلفة.
في الكتاب صفحتان؛ الأولى كتبها العقل الواعي بوجود الإنسان وبما يحرره من الضرورات المقيدة له ولمستقبله، وبما يصحح نظرته للعالم ولذاته ويعمق من طاقاتها وقدراتها على التعامل مع واقعه ومشاكله وتساؤلاته، أما الصفحة الثانية فهي ملك لقلم العقل المادح لغياب الوعي والمحرض على بقائه وديمومته والمنادي بالعجز عن تغيير الوجود وبضرورة الاستسلام للثبات.
راهن عقل الصفحة الأولى على قدراته في الصراع الفكري وعلى إحداث التغيير وإنتاج التطور وذهب إلى قدراته النقدية والتحاورية والبحثية في البناء والانتشار وتوسيع مساحة صفحاته وعددها في الكتاب وتقليص ومحو الصفحات المدافعة عن طقوس الظلام والجهل والعبودية وثقافة القطيع وتكريس الاستلاب.
لكن العقل الضعيف الكاتب للصفحة المضادة لا يؤمن بلعبة النقد والحرية والتي يدرك من خلالها بهزيمته ومحوه من الكتاب، فانتهج الكراهية والعنف بتدرجاتهما في مواجهة العقل الواعي وعمل على تصفيته من خلال صيغ عقلية ولغوية تنعته بالمخرب والهدّام وتكفره وتتوعده بمصير دموي وتشتغل على تصفيته باعتباره أشد الأخطار على المجتمع والأمة وعلى معتقداتها ونظمها.
العقل الواعي النقدي والعلمي عن طريق منهجيته المسالمة والمتحاورة قادر على إزاحة صفحات العقل الجاهل والمتسلط من الكتاب وتوسيع أفق الحريات الاجتماعية والفردية وتنمية قدرات الإنسان وتمكينه من التحكم في خيارات وجوده والتغلب على الضرورات الطبيعية والعلمية والفكرية والاجتماعية التي تعيق أو تحد أو تبطئ من رحلته للمستقبل الإنساني الأفضل.
ولهذا لجأ العقل المثبط للحياة في صراعه من أجل الحفاظ على صفحاته الرديئة إلى التعامل بقوانين وإجراءات رقابية جائرة لمنع الكتب ومصادرتها، وبمحاكم تفتيش مازالت مستمرة لردع وتصفية العقل النقدي ومن يؤمنون به ويقرأونه، كما أحرقت هذه الكتب بأوامر حماة الثقافة الميتة والمميتة.
مازالت هذه الإجراءات مستفحلة وتشتغل شفراتها ونيرانها على منع الكتب التي تتجرأ وتكتب من أجل توسيع الهوامش التي يخشاها من لا يمتلكون أعيناً تبصر في الضوء، كما يتم التشجيع على إنتاج الكتب ذوات الصفحات الصفراء والمزورة والمدلسة والمؤذية للتاريخ وللعقل العلمي، والمشتغلة على تدجين العقل واستدراجه لطقوس النوم، والترويج لها كبدائل ثقافية وفكرية.
لا نستطيع أن نمدح الكتابة والكتاب بشكل مطلق، ونطلق تصوراً لا يمتلك هوية لهذا الكتاب الذي حين نكتبه أو نقرأه لا نرى أو نشعر أو نتخيل صفحاته المنسوجة بلغة تمجد الحرية والإنسان وتجعله مركز الحياة والوجود.
علينا أن نعرف الكتاب الذي نقول عنه بإنه نتاج العقل الواعي والنقدي وإنه يعمل على مدنا بروح العلم أو الأدب أو الفن وإنه يساهم في صياغة وصناعة عالم جديد متحرر من الجهل والكراهية والكسل العقلي.
ليس كل كتاب يستحق أن يكون كتاباً.