الفن وسيلة يعبر فيه الأشخاص عن أنفسهم، وشعبهم، وأرضهم، وواقعهم. وينثر فيه الفنان أو الفنانة الآلام والآمال، الأحزان والأفراح، وتلمع فيه الدموع وتتلألأ فيه الابتسامات. الفن يندرج تحت قائمة الثقافة التي تتمتّع بها الشعوب والحضارات المختلفة، وله مقام عظيم في تعريف ثقافة قوم عند أقوام أخرى.
في مجتمعنا الأهوازي توجد أغاني مختلفة في كافة المجالات، من الحب والحزن والفرح والفخر والبكاء والرثاء. وهل يا ترى هذه الكمية الهائلة من الأغاني ترفع مستوى الوعي عند الناس أم تخدم القبلية والطائفية وتقوي الرجعية والتخلف في مجتمعنا وتعكسه للعالم؟!
أغنية إحنة النصر اندمجت باسم الفن وعالم الفن زورا و بهتانا وأصبحت تحت لواء مؤسسة باسم نصر الفنون التي أراها بعيدة عن النصر وعن الفن والفنون. بدأت الأغنية بجلوس الشاب الممثل تحت سعف النخلة في ضوء القمر، رافعاً رأسه إلى السماء تارة وآخذا رشفة عميقة من سيجارته تارة أخرى، لابسا ملابس عسكرية، وقد لف كوفيته على عنقه لفة محكمة، كأنه هو الوحيد الذي يحتمل وقوع حرب في قريته. وأما أهل بيته يمضون أوقاتهم في بيت عتيق بأنوار ضئيلة في قرية نائية منعزلة عن العالم وحداثته، بيت يشبه كهفٍ من تلك الكهوف التي اتخذها الإنسان الحجري سكنا له.
والأم تدندن ترتيلا، رافعة يدها إلى السماء، داعية الله النصر للمسلمين والأبرياء، وما أكثر الأبرياء في أرضه يا ترى!! رافعة يدها إلى السماء حينا ورأسها حينا آخرا، وتدعو الله باستمرار وإذا بصوت رهيب يدوي في الفضاء ويمزق صمت القرية فينهض الشاب بسرعة ويهرول نحو الباب وهو ينادي زوجته أن تعطيه البندقية!
أوصل نفسه إلى عتبة باب بيتهم العتيق وبندقيته بيده وبالكاد يلتقط أنفاسه، ألقى نظرة عابرة على حواليه، وتهلهلت أسارير وجهه، وتنفس الصعداء، وأدار رأسه نحو زوجته:
_اخبري الوالدة إن كل شيء على ما يرام.
أصوات صاخبة تطن في الفضاء، ضوضاء منسق يخيم على صمت القرية، الأصوات تعلو تارة وتهبط تارة أخرى، وتعالت الأغاني وارتفعت الضحكات، وقف رجال في الطابور بانتظام وبزي عسكري وبدأوا بضرب الأرض بأرجلهم. ارتفعت هلهولات النساء ودوت الزغاريد في الفضاء، جماعة من الشباب بدأوا بحركات منظمة، تشبه الدبكة والرقص وإذا بذلك الشاب الذي كان يدخن وكان مهموما في أول الفيديو ظهر أمامهم وبدأ يدور ويضرب الأرض برجله ويميل على شدة موسيقى الأهازيج وحدّتها، وشرع يغني بصوت عال و يرقص بحماس. لفتت انتباهي طفلة صغيرة بملابس العجائز، خرجت من زاوية رافعة يدها يمينا وشمالا وتكرر أهازیج بحماس شديد، قدحتُ نظرتي إليها فوجدتها امرأة مسنة وطاعنة في العمر، امرأة ذاقت حلاوة الدنيا ومُرّها وكأنّ ملامح الطفولة رحلت عنها وللأبد. هكذا بدأت السهرة، بالدبكة والرقص والغناء والأهازيج والزغاريد وبملابس عجيبة وغريبة من الزي العسكري، والزي الرسمي والزي التراثي والزي القومي!!
تساءلت عن سبب هذا الفرح المفاجئ الذي دق باب بيوت أهل هذه القرية فجأة، عند منتصف الليل، لابد أن حادثا عظيما قد وقع، وإلا کیف للفرح أن يعم القلوب ويجعلهم أن يتناسوا معاناتهم. لقد انقطع الماء عن أراضي أهل القرية قبل شهور، ولقد جفت المزارع وذبلت الأعشاب وماتت النخلات. لابد أن حادثا عظيما قد حدث. لربما انتهت مأساة القرية وسيعيشون عيشة كريمة.
ارتفع علم فلسیطن عالياً، کان العلم يرفرف على كواهل شباب أهل القرية. تلك الكواهل التي قد انهكتها هموم الحياة وصعوباتها،تهتز الآن فرحا وسرورا كما اهتزت بؤسا وشقاوة إثر صعوبات الحياة في أرضهم المملؤة بالثروة والنفط.