الغراب الذي أضاع المشيَتين/سعيد بوسامر

الغراب الذي أضاع المشيَتين/سعيد بوسامر

الغراب الذي أضاع المشيَتين
عن تفاقم عقدة الهوية في الأهواز
سعيد بوسامر
٢٠٢١ مايو

مرت الفلبين بظروف فریدة مذ جاءها الأسبان ذلك لأن أسبانیا قصدتها غازیة، لا عسكریاً أو اقتصادیاً فحسب، بل ثقافیاً ولغویاً وهكذا مضت ثلاثة قرون من كفاح دامٍ بین شعب أعزل بریء، رفض فريق منهم الاستسلام، فثمن ذلك كان مزیدا من العزلة والتخلف، وغُلب على أمره فریق آخر واستسلم للأسبان فكان جزاؤه تقطیعاً لأصله وهویته وثقافته ولغته. وهكذا تكونت الأمة الفلبینیة من أغلبیة تأثرت أشد التأثر بالثقافة الأسبانیة ولكنها في نفس الوقت لیست أسبانیة وهذا ما كان یحرص الأسبان أشد الحرص علی تنبیه الفلبیني الیه عند رجوعه الیهم لفرصة عمل أو غيرها فیقال له: أنك رغم كل شیء لست أسبانیاً..! (وسانتوس،2018: 7).
في نفس السیاق قرأت في كتاب ” أمیركا والإبادات الثقافیة” عن ظاهرة الخوف من الذات وكراهیة الذات وحتی العنصریة ضد الذات وجلد الذات(كما أنها جلية في الأهواز أيضا)، الحالة التي جعلت بعض السكان الأصلیین لأمریكا (الهنود الحمر) یعتبر هویته كابوساً حتی وصل الحال إلی أن الهندي في أرضه یجهر بالقول: ” أتمنی لو أنني لم أخلق هندیاً”. ومن الطبیعي أنك عندما تلقّن الطفل بسموم عن لغته وثقافته وأهله وحیاته وتاریخه، أو تحاول تشنیعها، إنما تعدّ المناخ المثالي له لیكره ذاته ویبعد عن لغته وثقافته. نموذجان طرحتهما لأشير إلى أمر في غأية الأهمیة وهو انتماء الأفراد إلی المجموعة التي ینتمون إلیها أساساً. عقدة الهویة الاجتماعیة كما یسمیها روكاس وبروور هي في الواقع السؤال المشهور من نحن؟ فقوة انتماء الأفراد وضعفهم یأتي من أسباب كثیرة وقناعات فردیة تثیر سؤالا هاماً وهو: هل أبقی مع مجموعتي أم انتقلُ إلی مجموعة أخری. بعدها تأتي قضیة الاندماج بهوية جدیدة وهل المجموعة الجدیدة تتقبل الأفراد الجدد؟ هذا النظام النظري أي عقدة الهویة الاجتماعیة تحصل لكثیر من الأفراد الذین حاولوا دمج أنفسهم مع الهویة الغالبة(الفارسية في النموذج الأهوازي) وفقدان هویتهم العربية.( روكاس وبروور،2002: 86).
في المجتمعات المتعددة الثقافات عامةً وفي الواقع الأهوازي خاصةً یمكننا أن نلاحظ الكثیر من حالات تفاقم عقدة الهویة. الهویة أو اللغة المسیطرة في أغلب الأحیان لم تتقبل هویة الأقلیة. في نهاية الأمر نری أن الفرد المنصهر یصاب بالازدواجیة في شخصیته وسیواجه مصاعب نفسیة في المستقبل لأنه فقد هویته بأمل أن تتقبله الثقافة الفارسیة لكنها رفضته وبقوّة. يذكر “روكاس وبروور” انّ عدم الالتزام بالمجموعة الحقیقیة والانتساب إلی مجموعة أو مجموعات مختلفة أي هویات اجتماعیة جدیدة سیؤدي إلی تفاقم عقدة الهویة الاجتماعیة وتشدید حدتها.
لي صدیقٌ (يسكن في حي “قلعة أحمود” زيتون الحالية) يتحدث الفارسیة مع طفلته الوحیدة منذ ولادتها وكانت له حجج لا صلة لها بالعلم الحدیث ويجهل ما ثبت عن #فوائد_اللغة_الأم وأن فقد اللغة الأم سيسقط الطفل في أزمات نفسية. في یوم من الأيام قال: الیوم رجعت ابنتي من المدرسه وهي تقول لي :بابا چرا من عربم من شرمم میاد عربم.! همه سر كلاس به من میگن عربه (ترجمة: أبي لماذا أنا عربیة، أنا أخجل من کوني عربیة، الجمیع ینادونني یاعربیة-بحقارة-) رغم أنها تعلمت الفارسیة لغةً وثقافةً منذ الطفولة!!! أيضا خلال دراستي في الجامعة في طهران تعرفت على شاب عربي لا يتقن العربية تحدثا وكتابة وكان يلقي باللوم على أسرته الذين لم يعلموه العربية وأبعدوه عن هويته الأم كي يرتقي مدارج النجاح بسهولة كما يتوهمون. كان العرب من زملاءنا يستهزئون به لأنه لا يستطيع أن يجالسهم ويسامرهم وكان الفرس يسخرون منه لأنّه عربي ومهما حاول أن يخفي عروبته فملامحه ولهجته تفضحه ممّا جعلته في حالة كآبة مستدامة حتى قال لي ذات يوم لن أفعلها مع طفلي يا صديقي، لن أكرّر خطأ أسرتي فبدأ برحلته إلى أحضان لغته الأم.
هذه الماذج تبیّنُ مدی فاعلیة رفض الثقافة العربیة رغم إصرارها للاندماج مع الثقافة الفارسیة الغالبة. فالثقافة المتسلطة غالباً ما تحاول مسخ وتشویه هویة الثقافات الأخری (الضعیفة) وتشویهها وتركز كل طاقاتها لتنتزع اللغة أو الثقافة المقهورة وتحتوي أفرادها وحینما تتم العملیة ویبدأ الفرد المقهور بتطبیع نفسه یتم رفضه ویعامَل كضیفٍ واردٍ ومحقر كذلك الغراب الذي جاء ليقلد مشية الحمامة فتعثر ونسى المشيَتين!

المصادر:
-بوسامر، سعيد. أنا لغتي:عن اللغة الأم في الأهواز. الأهواز. نشرقهوة: ٢٠٢٠.
-Rocas, S &Brewer M,B, 2002. Social identity complexity. Personality and social psychology, review, 6, 88-106.
-وسانتوس، بینفنید. المعذبون: مجموعة قصصیة، ترجمة محمد یوسف عدس. المؤسسة الدولیة للنشر والمعلومات، 2018.
-العكش، منیر. أمیركا والإبادات الثقافیة: لعنة كنعان الانكلیزیة.بیروت: 2009.
صفحة الكاتب:
@saeedabusamer

أنا مثقف الأهواز

تصنيفات