رمال.. رماد.. رمال.. رماد.. رصيد.. و..
سرب من الحمام يرسم فوقكما قوس قزح.. هي ترفل في ثوبها العشبي كطيور الماء، تنضح برائحة النهر، وأنت لا تصدق أنها علقت بصنارتك! لا تصدق أن أباها وافق على قرانكما. شبكتَ يدها بيدك، خشية أن يخطفوها منك..
تنتظران التحاليل وكأنكما تنتظران الفوز باليانصيب، يظللكما من تنّور عبادان اللاهب، البناية الشاهقة بطوابقها العشرة في مدينة سقف حلمها لا يتجاوز الخمسة.. يثلج لظى كبدك شمس ابتسامتها المشرقة!
-أريد منك عشرة أطفال يشبهوك..
– هه.هه.. معمل دجاج..
كانت البناية البنيّة مظلةً لحبكما..
-ذات يوم سأشتري لنا شقة في هذه العمارة الجميلة يا وهيبة!
مدت يدها إلى قلبك وقالت: بيتي هنا.
-البيت الذي تسكنیه يصبح أجمل البيوت،مؤثثاً بك..
تنقّل أقدامك مستبطئاً نتائج التحليل، تفرز عرقاً حارقاً تحت إبطيك وبين فخذيك.. لا تستعجل حبيبي..المهم أننا مع بعض..وكيف لا تستعجل وأنت انتظرتها كل هذا الوقت، منذ أن اشتد عودك وأينعت هي.. فيك لهفة الفلاح وبها ظمأ الأرض.. ماذا ستزرع يا إبراهيم في أرضك، سألك علوان وهو يقهقه.. سأزرع فحلاً مثل حصاني “الريح” أيها الحمار! وإذا كانت “فرساً”؟ كله واحد ما دامت الأرض طيبة خصبة..
-ولداً أم بنتاً؟
-ماذا يا نور عيني؟
-هل تريد أن يكون مولودنا الأول ذكراً أم أنثى؟
– لا فرق عمري، المهم أنه منك، لكن لو كانت بنية مثلك أفضل..
-يا محتال!
-أكبر احتيالي أني احتلت عليك لتحبيني..
كانت الشمس تتسلق المبنى، تصهر الإسفلت والحديد والسيارات والناس.. وأنتما تحتميان بالبناية العالية، تتكئان على ساقها الرخامية الرمادية الغليظة.. فضلتما البقاء خارج المختبر الغاص بالحشود المكمّمة..
– غداً سأعمل في هذه البناية.
– حقاً؟
– لقد دبر لي علوان عملاً فيها.
– فرحت كثيراً حبيبي.
– أنت طير السعد حبيبتي.
– تعالي لنحتفل..
كانت تحب المثلجات بنكهة الفراولة وأنت الهنبه، وكنت تأتي على طاستك، ونصف طاستها..
-لم تكن تحب الفراولة!
-أحبها بنكهتك.
* * *
كنت خائفاً كيف ستسدد ديونك التي استدنتها من أجل زواجك، لولا أن علوان أنقذك، وقال: لا تشيل هم صديقي، ستدبر.. وبالفعل دبرت، مع هذا العمل كحارس في هذه العمارة، منذ الغد ستبدأ عملك مرتدياً قميصك الأزرق السماوي وسروالك الكحلي، تتدلى من حزامك هراوة وكأنك شرطي، تنفخ صدرك كديك،تختال زهواً، أمام ابن عمها الأرعن.. وإذا حاول الإعتداء عليك، تسطره بها على رأسه ككلب أجرب، تتركه ينوص ويعوي..
-لابد أن النتائج جهزت الآن.
– إشتري لي رصيداً قبلها.
– سنشتري يا عزيزتي، لنأخذ التحليل أولاً.
لكنه لم يكن جاهزاً بسبب انقطاع شبكة النت، فكان عليكما الانتظار حتى تتصل مرة أخرى.. ما أكثر انقطاعها في هذا البلد، وحتى حين تكون موصولة فهي اشبه بحنفية تقطر.. أسبوع مقطوعة بسبب المظاهرات ضد ارتفاع أسعار الوقود، أسبوع بسبب الاحتجاج على نتائج الانتخابات، أسبوع مفصولة بسبب إستعار أسعار السلع عشرة أضعاف في عشية واحدة والذعر من قيام ثورة..
“إنها مؤامرات العدو، أياد خارجية تحرك خيوطها..”.
بدأت أعداد الناس تتزايد في الزقاق الفرعي الذي يضم مختبراً، وصيدلية، وعيادات أطباء،مع منتصف الظهيرة، وازدادت جموع المستظلين معكما بالبناية، من بينهم حمامتان.. شاب وشابة يمسكان بيدي بعضهما مثلكما يقفان قبالتكما في الطرف الآخر..يهمس الشاب في أذن الفتاة شيئاً، فتضحك وتضع كفها أمام فمها.. ماذا قال لها يا ترى؟
رجلٌ أربعيني يجذب نفساً عميقاً من سيجارته، ويسحق أعقاب أخريات.. طفل يلعق قمع مثلجات، لطخت قميصه الزهري، تحاول أمه مسحه بمنديلها.. رجل عجوز يظلل امرأته بجريدة، يهفهف بها عليها بين الحين والآخر.. بائع المكسّرات والحمضيات بقبعته القش، يدفع عربته هارباً من حمم السماء، يستوقفه زبون في اللحظة الأخيرة.. وهج نور الشمس يعشي العيون..
-لم يبق إلا القليل عزيزي..
-سأصبر على أي شيء إلا عنك، ما دمت معي..
كنت مستعدأ أن أقتل ابن عمك لو أنه منعك عني، أنبتني يومها بنظراتك التي لم تكن تنتظر أن تبدر مني مثل هذه الكلمات! خاصمتني أسبوعاً كأنها سنة، حتى صالحتك.تجرّعت المرار حتى أقنعتك، إنها مجرد تصريحات فتى قروي حمقاء ألهبت نار العشق والغيرة دماءه..
– ألا تعرفيني يا وهيبة؟! أنا إبراهيمك الذي لا يستطيع دعس نملة.
صالحتك بعقد من صدف البحر، جمعته، من رحلة صيدي إلى “هنديان”. تهلّلت أساريرك عند مرآه، ومضت نجمتا عينيك! انقشعت معهما ظلمة صدري.. كنت ترفضين أن تستبدليه بعقد شبكة الخطوبة.. ها هو اليوم يطوق جيدك العاجي، تحت شيلتك الحرير.
-أووف.. والله طلاع روح..
-هانت حبيبي..
-سأذهب لأرى ألم تجهز التحاليل.
-اشتري لي رصيداً إبراهيم..
غمرتنا ظلمة كثيفة بغتة! كنت في غيبوبة، لا أدري لكم من الوقت..استيقظت على آهاتك وأناتك، أشعلت مصباح نقالي، لمحت وجهك المترب المضرج بالدماء ويدك الممدودة نحوي.. حاولت التحرك باتجاهك، لم أشعر بساقَي، كانت حديدة ثقيلة تجثم فوقهما. کانت السماء إسمنتیة ملاصقة لرأسینا. الزمن يتسرب من مسام السقف.. ينهمر.. يداهمنا! يطبق قبضته الرمادية علينا.البناية ساعة رملية مقلوبة..
أصوات صراخ وعويل ونحيب وبكاء من تحت البناية وخارجها تتناهى إلي.. أردت أن أصرخ طلباً للمساعدة، لكن صوتي خذلني، كانت حبال حنجرتي، ملتفة ببعضها مثل أغصان عوسجة، بفعل الغبار والتراب و العرق والدم الذي ملأ فمي، ينوس صوتي مثل ضوء شمعة: وهيــ.. وهيـــ.. كنت تحركين شفتيك تحاولين عبّ الهواء مثل سمكة.. تهمسين، لكني لا أسمع ما تقولين، أذناي تنزفان، ليس فيهما إلا الوشيـــــش..لم يشمّا ما فاح من ياسمين فمك القاني..مازلت إلى اليوم في حسرة سماع كلماتك الأخيرة.. نجمتا عينيك تخبوان شيئاً فشيئاً حتى انطفأتا، وغرق الكون بظلمة حالكة. ظننت أنني مت، وأننا دفنا معاً في ذلك القبر، تحت آلاف أطنان الإسمنت والكونكريت، لولا أنني أحسست يدأً تسحبني.. أردت أن أسحبك معي.. لا. لا. لا.. وهيبة، وهيبة، وهيبــــ..
حاولت أن أخبرهم أن ينقذوك ويتركوني، لم يسمعوني، صرخت! لا شيء خرج من فمي غير الهواء، وصوت صفير، وكأن قصبتي، ناي.
كنت أعرف أنك ما زلت حية، لقد لمحت أطراف أناملك تخمش التراب، تنغرس في الأرض، تتشبث بالحياة، بي.. لا أدري من منا مات تلك اللحظة.. لكني أدري أن بيتك تؤثثه ذكرياتك.. حصلتِ على قبر في تلك البناية بدلَ الشقة.
* * *
البياض.. كل شيء غارقٌ بالبياض.. شاشة التلفاز: إنها مؤامرات العدو، أياد خارجية تحرك خيوطها…” قائد الثورة.
الشريط الإخباري: اعتقال صاحب البناية في اليوم الأول، موته في البناية في اليوم الثالث من انهيارها!
النت منقطع منذ أيام.. خوفاً من احتجاجات في المدينة على صاحب البناية الذي يملك المدينة، والبلدية، والمحافظ.. وصمتهم على التقارير التي تشير على وشك انهيارها في أي لحظة.. لم تكن هناك حاجة إلى تقارير، كانت التصدعات والشروخ في هيكل البناية من الداخل ظاهرة للعيان. وحدها تصدعاتي خافية..
وهيبة.. وهيبة.. وهيبة..
قوات مكافحة الشغب تصل قبل قوافل الإنقاذ، عدد سيارات الشرطة أكثر من سيارات الإسعاف..
وهيبة.. وهيبة.. وهيبة..
في الجانب الآخر من الغرفة عجوز يبكي بحرقة، تحاول الممرضة تهدئته. أسالها عن طفل بقميص زهري ملطخ بالمثلجات..لم يوردوا اسمك بين الضحايا أنت والعشرات.. جرفوكم مع الركام والحطام ليجرفوا ذاكرتنا..
وهيبة.. وهيبة.. وهيبة..
يدخل ابن عمك، يعطيني علبة ويغادر..أفتحها.. بعض أصداف عقدك تهشمت. طارت حمامة من حافة النافذة..
وهيبة.. وهيبة.. وهيبة..
بعد أسبوع يعود النت، وتصلني رسالة منك على الواتساب، تاريخها اليوم الثالث للحادث! غامت عيناي. أوصالي ترتجف كأغصان صفصافة دهمتها عاصفة.. ترتعش يدي وهي تمتد إليها..أضغط عليها:
لماذا يا إبراهيم؟!
لماذا…
_____________
رضا آنسته
الأهواز،عبادان،2022/5/25
#عبادان_متروپل
#رضا_آنسته_الرب_والرماد