ذات مساءٍ مبللًا بالمطر والظلام. كنت واقفًا على قارعة الطريق، أومئ بيدي لسيارة أجرة، اقترب مني أحدهم ملوحًا بأصابعه الثلاث(إشارة لمفترق المحمرة) هرعت نحوه هاربًا من شدة المطر.
ألقيت عليه التحية، ردها ببرود، لمحته يرتدي معطفًا بنيًّا، بوجهٍ ممتلئٍ، وشاربًا كثًّا. وكآية صغرى لتلك التناقضات العائمة في مجتمعنا المغلوب؛ كان السائق يمسك ما بين أنامله سيجارة “أوسكار” سوداء
؛ سألني ما إذا كان دخان سيجارته يؤذيني أم لا.. ففاجأته بطلبي السيجارة.
لمحت بسمة مرتبكة طفيفة،لاحت على شفتيه، وهو يناولني إياها؛ قال لي:
_لم يظهر أنك تدخن.. نهتّ قليلًا وأردفت:
عادة ما في المطر؛ينتابني شعورٌغريب، يجتاح كياني التعِب، فيحتّم بي أن الجأ للسيجارة كحقنة خلاصٍ مؤقت.
رمقني بنظرة تجدح ريبة، لا أعرف ما إذا فهم هذياني أم لا…
لكنه دسّ رأسه إلى الأمام، وأخذ بقطعة منديلٍ مهترئة، يمسح زجاج سيارته، حيث بدأ المطر يشتد هطلًا وكاد أن يعتم على نظره.
وأنا أحدق في الطريق حيث المياه المتدفقة في الأرجاء. وجدتها واقفة على قارعة الطريق، بثيابها الرثّة ومعطفها المهترئ. وتحت زخات المطر الغزير، واضعة على رأسها كيسًا بلاستيكيًا، تركض من سيارة لأخرى، تدس برأسها داخل هذه، وتخرج راكضة من تلك. وقفتْ أمام طريقنا تومئ بيديها راجية أن نتوقف.
متى نتخلص من هؤلاء المتسولين الذين أصبحوا كقطّاع طرقٍ يعترضون المرء أينما ولَّى وأيّان ذهب.
قالها السائق وهو يعصر بكابح سيارته ممتعضًا.
اقتربتْ مني، كانت فتاة يافعة بوجهٍ شاحب، وهيكلٍ خاو. بسطت كفها المرتجف نحوي، لمحت بُقعًا زرقاء داكنة في أطراف أناملها. فتحتْ فاهها وتحدثت بصوتٍ خفيض:
_أمي مريضة، وأطلب المساعدة..
باغتها سائلًا:
_ليش أنتِ، وتحديدا بهيج جو،وليل؟
(متجاهلًا طلبها..!)
امتقع لون وجهها البريء ،وأخذت تمدني بنظراتها الصامتة. نبتت كالمسمار جامدة؛ دون أن تنبس ببنت شفة.
ناولتها النقود مخففًا عنها عناء الجواب، والمكوث طويلًا تحت زخات المطر،أخذتها من يدي ومازالت نظراتها المتوجسة لم تفارق وجهي.
صرخ السائق العصبي بي:
_فضها بعد اخوك خل نمشي. وسرعان ما زعقت سيارته في الأرجاء.
كنت أمام مشهدًا تراجيديًا بائسًا، غصت على أثره؛ في الكثير من الأسئلة الوجودية الغائرة في كنه أعماقي..
عن الإنسان، عن الشرف، عن الكرامة،
عن هذه المفاهيم الباهتة، في مجتمعٍ يعج بالتناقضات.
استوقفني مفهوم الشرف كثيرًا، تُرى
كيف لمجتمعٍ يقتل إنسانًا بدواعي الحفاظ على الشرف؛ أن يترك مايسميه”الشرف” متسولًا في الشوارع والطرقات؛ يلاقي مصيره البائس لوحده، دون القبيلة والشيخ والأب والأسرة..!
وبينما أنا عائمٌ في أسئلتي البائسة. نزلت في المفترق، محاطًا بمياه المجاري، وتحت رشقات المطر رحت أبحث عن بائع السجائر..