مضت ستّة أعوام أطلق فيها أبواي العنان لرغباتي وخضت في بحبوحة من العيش أتعاطى الحبور والابتهاج و أعبر عما أريده بلسان الضحك أو البكاء هانئا في حياة كريمة حتى بدأتْ حياةٌ مدرسيّة كانت تفرض علي أن أعي ما لا أدرك وأتفطّن ما لا أفهم وأهمل لغتي التي ترعرت في كنف أبجديتها وأفصل بينها وبين لغة التعلم!
في ذلك اليوم الذي كان فجره يبعث النور والأمل بمستقبل رغيد، أيقظتني أمي غدوةً فأزحت الدثار مغتبطا خفيف القلب والطوية واستعددت بماينبغي من عدة وذهبت إلى المدرسة وقد اصطحبتني أمي وكانت تحدثني طوال الطريق بمرح وتفاؤل وتغرس في نفسي الآمال الجسام وتجتذبني بوعودها المعسولة حتى بلغنا المدرسة، فدخلْت ورجعَت أمي!
غمرت عينيّ عبرة واعتراني من الهم ماضاق به صدري لو لا فسحة تلك الآمال والوعود فانزويت في جانب حتى صاح بنا مدير المدرسة بصوت كأنه زمجرة الرعد فوقفنا الواحد تلو الآخر في صفوف منتظمة متناسقة وأتذكر بالضبط كيف كنت خائفا أترقب وأحدّق النظر ببصري وبصيرتي إلى المنصة!
فأخذ مكبرة الصوت بيده وألقى كلمة تماثل كلمة الحجاج بن يوسف في الكوفة فأطال القول وأجزل الوعيد..
لم يكن يتكلم بلغتي التي آلفها وإنما عرفت ذلك من لمحات وجهه وتلويحاته بعصاه ونظراته الشزراء التي كانت تخطفني أثناء كلامه.
و بعد ما تمت خطبته قرأ أسماءنا و قسّمنا أربعين أربعين ثم أرشدونا إلى حيث الصفوف!
فجلسنا على تلك الكراسي الخشبية التَّعِبَة وبدأنا نتعرف على بعضنا والجو صاخب إثر اختلاط الأصوات حتى دخل المعلم!
دخل المعلم فعمّ السكون وشخصت الأبصار و خشعت الأصوات ولا تسمع حتى همسا فتربع على كرسيه المريح وبدأ يرطن وأنا منكبّ منهمك قد أخذني التأمل بعيدا فلم أحفل بكلامه و لم أستوعب منه سوى تحيته التي كانت عربية واسمي!
دُقّ الجرس فهرع التلامذة نحو الفناء يصطرخون ويهرولون وخرجت أنا معهم لينشرح صدري وأتنفس الصعداء لكن مالبثنا حتى زجرنا مناد أن ادخلوا الفصول مسرعين!
عادت الكرّة وشرع المعلم في الاستفهام عما لا أدري وكلٌّ أجاب على شاكلته وطبيعته حتى انتهى إلي!
بلغت الروح الحلقوم والطلبة كلهم حينئذ ينظرون فصمَتّ ولم أتفوه بكلام حتى قطع عليّ حبل الصمت بصوته المرعب ففزعت و نطقت من غير وعي ماجعل الصفّ يضج من التهكّم والضحك.
يومذاك أحسست بضعف في شخصيتي و لقنت على نفسي بالعجز والرسوب والإخفاق وبأني لاأصلح للدرس أصلا وليس بإمكاني الاعتلاء والتميّز .
حينها قلت في نفسي ليت الله لم يخلقني من أبوين عربيين كي لا أكون موضعا لسخرية أقراني و لكي أتفهّم ما يقوله المعلم حتى أستطيع منافسة الباقين وأبدع في التفوق و تحقيق أحلامي التي أمست وهماً لا أكثر!
بعد ذلك لم أذهب إلى المدرسة إلا جارّا رجليّ بالقسر والارغام ولم أتعوّدها إلا لأنسي بفئة من صبيان حيّنا ولم أتعلم في الابتدائي كلّه إلا ما علمنيه أخي الأكبر الذي كان يشفق علي ويكترث لتعليمي بين الحين والآخر بلغتي الأم!