ما أغمضت عينيها لحظة من کثرة القلق والتفكير، أصابها صداع شديد فأخذت حبوباً مهدئة، نهضت من فراشها، تمشي بهدوء حتی لا تصدر أي صوت.
تسللت إلی الغرفة المجاورة، فتحت الباب، کانت الغرفة مظلمة، مدت یدها و ضغطت علی زر الضوء، ألقت نظراتها إلی أنحاء الغرفة، خزانة الملابس تقع في الزاوية وجنبها المكتبة الصغيرة التي وُضعت الكتب فيها بصورة مرتبة والسجادة المتواضعة الذِّوق التي غطت الأرضية بالکامل.
حدقت للحظة بالأوراق المطوية، التي وضعتها في طیات أحد الكتب، بهدوء تقربت إليها وأخذت الأوراق، فکانت قصيدة مخطوطة بخط ظلت تستعيد تلك اللحظة عندما كان جالس بجوارها و یكتب هذه القصیدة ويقرأها لها و هي تنصت إليه وتستمتع بالأشعار التي تفيض بها القريحة الوطنية. فرتبت الأوراق و بدأت تعيدها إلى مکانها ثم ألقت نظرة سريعة علی الساعة الجداریة و غادرت الغرفة
ظلت مدة واقفة عند عتبة الباب تنظر إلى الشارع المظلم و تراقب كل ما يأتي و يذهب و كلما تنظر یبدو لها أکثر ظلمة و أکثر حزناً.
تذكرت قبل يومين کان الشارع یضج بالناس، وأصوات التهئنات التي يمكن سماعها من كل بيت ومن کل الأزقة، ويتبادلون التهاني، والبهجة مشرقة علی وجوههم بالرغم من الفقر، الألم والحرمان. ومن بيتها كانت تبخر رائحة البخور والزعفران والقهوة العربية مذاقها ممزوج بالهيل الذي يترك نكهة طيبة.
تذکرت رحمٰن في صباح يوم العيد کان وسیماً وأنیقاً في دشداشته البيضاء، واقفاً أمام المرآة و یعتمر الكوفية الحمراء.
بارکت له العيد وعانقته بحنان، و قبلته علی جبينه و هو قبل يدها. تذكرت نظراته في أثناء مغادرته، استدار نحوها وقد ارتسمت علی ملامحه تلك الابتسامة الغامضة، في تلك اللحظة اعتصر قلبها وقد أصابها القلق وشعور غريب!!
قد رافقهم ويهتف بكل ما في حنجرته…
مسيرات المعایدة التي کانت تعم الشوراع تعزز وتعبر عن الهوية العربية، بارتداء الزي العربي وتعلو هتافاتهم بالأهازيج التي تنبع من أحاسیسهم الوطنية.
تزاحمت الأفكار والأسئلة في رأسها:
_لماذا لم يعد!! ليس من عادته أن يتأخر.
أين اختفی؟ لم تترك باباً للبحث عنه، ولکن لم یر منذ يومين!! يجب أن أذهب وأبحث عنه في کل مکان!
لم تکن تعرف ما الذي يجب عليها أن تفعله. فارتدت عباءتها مضطربة، خرجت من البيت وأغلقت الباب خلفها، تمشي بخطوات سریعة، وکأنها تهرب من شيء ما، لم يكن هنالك ما يستطيع إيقافها، ابتعدت عن بيتها مسافة کثیرة، تابعت سيرها في اتجاه المدينة، ومع کل خطوة، عيناها تتلفتان یمیناً ویساراً بحثاً عن ابنها وخلال سيرها تصيح باسمه.
_هل من أحدٍ منکم رأی ابني؟! رحمٰن …رحمٰن..
فالتفتت إلی بعض الرجال الذین کانوا يغادرون الشارع لکي يعودون إلی بيوتهم لیحصلوا علی قسط من الراحة!
مروا من أمامها، لاأحد يسمع ماذا تقول؟! و ماذا تريد!!
قد بدا عليها الانزعاج الشديد و هي تدمدم في صوت غاضب و تحاول إخفاء غضبها!
لاتعرف ماذا حدث له؟! وأين هو الآن؟ ولماذا لا یجیبها أحد!
بعد منتصف الليل بدت الشوارع خالية من المارة، والصمت خيم علی کل أرجاء الشارع، بعد أن کان ینبض بالحرکة طوال اليوم!
راحت ترقب بعين تائهة، لاتعرف أي اتجاه تسلك؟ تابعت سيرها في اتجاه النهر فإذا بها تجد نفسها عند الجسر، وقفت صامتة أدارت رأسها صوب النهر، کارون الجميل و هو يجري في وسط المدينة وظلت تنظر إلی الماء من علی الجسر، فهبت ريح الخريف في وجهها، أخذت نفساً عمیقاً، أستشممت رائحة العشب والتراب و استنشقت کل الروائح التي تأتي من النهر فسمعت صوتاً، من مکان قريب فظلت تنظر حولها وتستمع إليه جيداً، أنين حزین ومهموم!!
مرت لحظات وهي تصغي إلی الصوت، فلم تکن تسمع سوی صوت الأنين، نزلت من أعلی الجسر واتجهت مباشرة إلی النهر، يبدو أنه يناديها فدفعها إلی النهر، جلست على الأرض في ضفة النهر.
بدت دهشتها وتساءلت في فزع:
_کأنَ هذا الأنين یأتي من النهر! لکن لماذا هو حزين؟!
هل يحمل علی أکتافه عبئاً کبیراً! أو يحمل أسراراً ويريد أن يبوح بسرٍ!
أظن هکذا! ولکن لماذا لايقول شيئاً، ماذا ينتظر؟ وإلی متی يريد أن یبقی صامتاً!
ألم یحن الوقت أن يخبرني!
تحدق في الماء و کأنه أصبح هذا المکان ملجأ الحزن و المأتم لها ليشاركها حزنها و یواسیها، ربما هو الوحيد الذي يعرف أين هو؟ وما الذي حدث له؟ وربما هو الوحيد الذي يستطيع أن يجده،
تحت أعماق النهر
بين الأرض و الموت
بين النداء والصمت
کل ما حولها ظلام في ظلام جالسة وحیدة کما الهلال وحید في السماء وشفتاها تتحرکان كأنما تقول شيئاً…حسّت بوجوده في نفسها تری ابنها الذي يطفو علی سطح الماء، أو لعلها کانت تتخيل فقط!
بدأ قلبها يخفق سريعاً حتى تکاد تسمع دقاته بوضوح! ولم تكن تعرف ما الذي تخبئه لها الساعات القادمة
النهر غارق في ظلمة، هناك عند الضفة الأخری، أحد ما سحب القارب عبر سکون الليل، لمح له من بعيد شيء فوق سطح المياه ثابت لا يتحرك!
أخذ يسحب المحرك بقوة والمیاه تتموج وتتصاعد من کثرة الجثث في حضنه.
وصل القارب إليه، وجد الجثة التي كانت يطفو علی سطح الماء الأسود، ثیابه البيضاء كانت ملتصقة علی جسده النحیل، ومکبل الأيدي إلی الخلف، فدار الجسد في الماء، کانت لا تزال ملامحه ظاهرة في وجهه، فقفز الرجل على الفور، ظنا بأنه ما زال حيا، غطس وسحبه إلی القارب و لکن کانت روح طائرة كالحَمامة تحوم فوق النهر.